عادي
قرأت لك

الضمير..إشراقة لا تنطفئ

14:30 مساء
قراءة 5 دقائق
  • الناشر: دائرة الثقافة – الشارقة

الشارقة: يوسف أبولوز
كتابة التوقيع، أو الشذرة، أو الومضة أو الإشراقة من أصعب أنواع الكتابة الأدبية، وربما لهذا السبب يتجنّبها الكثير من كتّاب النثر العربي الاختصاري إن جازت العبارة، فالشرط الأول في هذه الكتابة هو الاختصار، والاختصار فن في حدّ ذاته، فمن السهل على الكاتب أن يستطرد، ويتوسع في الشرح، ويشرِّق وَيُغرِّب سواءً أكانت مادّته سردية أم شعرية، ولكن من الصعب، عادة، التكثيف، والإيجاز، وحتى كتّاب الجملة القصيرة السريعة تُعتَبَر لهم هذه الخصيصة الأدبية امتيازاً تحت القاعدة الأدبية الصحيحة تماماً وهي «السهل.. الممتنع»، والكتابة سهلة على مَن يمتلكون طبيعة وعادات الإيجاز والاختصار، ولكنها في الوقت نفسه ممتنعة، على من لا يمتلك حرفية الكلام القليل واللغة القليلة ولكن في الوقت نفسه تؤدي هذه القلة إلى كثرة أدبية، جمالية، رفيعة.

الشيخة عزة بنت محمد القاسمي تكتب بأقل الكلمات، ويخيل إليك أن هذا النوع من «إشراقات لا تنطفئ» وهو عنوان الكتاب، إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة 2014، كتابة متاحة، أو أنها كتابة مريحة أو استرخائية إن جازت الكلمة، ولكن على العكس من كل ذلك هي كتابة صعبة ولكنها ليست مستحيلة بالنسبة للأرواح والقلوب والعقول التي تمتلك القدرة على تقطير الكلمات وتنقية الكتابة من الزوائد والهوامش والترهلات الزائدة عن الحاجة النثرية، والنثر، بطبيعته، أميل إلى الإيجاز.

«إشراقات لا تنطفئ» كتابة أدبية لها جذورها في تراثنا العربي، فهي شكل من أشكال أدب التوقيعات، لكن «التوقيع» ارتبط بالجملة الأمرية أو الإخبارية الموجزة في بضع كلمات ويوجهها عادة الخليفة أو الحاكم إلى أحد عمّاله، وهي في العادة جملة «رسمية» مشحونة بطاقة أدبية تعكس ثقافة الخليفة وروحه اللغوية أو الأدبية

* لغة مقطرة

لكن الإشراقات عموماً أو الشذرات هي ليست توقيعات أمرية أو إخبارية أو تقريرية أو توجيهية. الإشراقات هنا وفي إشراقات عزة القاسمي هي أدب – مُصَفّى، ولغة مقطّرة، ونحن هنا نقرؤها أكثرمن مرة، لأنها نوع من الأدب النادرفي ثقافتنا العربية، فالسرد «الرواية والقصة» و«الشعر» يسيطران على الكتابة العربية برمّتها، في حين يبدو أدب الشذرة نادراً أو قليلاً، ومع ذلك، نقرأ الشذرات على نطاق واسع.

تاريخياً، يعتبر الكاتب الفرنسي فرانسوا دو لاروشفوكو (1613-1680) من بين أقدم من كتبوا التوقيعات، كتابه «حكم وأفكار» شرع في كتابته، كما جاء في مقدّمة الكتاب في عام 1658، وصدر في باريس في عام 1664، ونقله إلى العربية عن الفرنسية محمد علي اليوسفي، لكننا سنقرأ مقدمة مهمة للكتاب وضعها الشاعر العراقي المقيم في باريس كاظم جهاد، الذي يقول أن كتابة «التوقيعات» فن يجمع الأدب إلى الحكمة أو السخرية النقدية، ويعطي أمثلة على من برعوا في هذه الكتابة: إميل سيوران، رينيه شار، باسكال، ونيتشه.. أما تجربة فرانسوا دو لاروشفوكو فقد استغرقت منه عشرين يوماً لينجز هذا النوع من الكتابة.

في «إشراقات لا تنطفيء» لا توجد ما سمّاها كاظم جهاد – السخرية النقدية بالمعنى المباشر للكلمة، بل توجد الحكمة، يوجد الضوء، يوجد الحلم، الشمس، الضمير، العمر، العقل، القلب، الغضب أيضاً، الماء، المرأة، الإنسان عموماً، الزمن، وفي إشراقات أيضاً تجد ذاتك العربية أو العروبية، وتجد فلسطين أيضاً، غير أنني توقفت عند فيض الضوء والنور والشعاع في هذه الإشراقات التي عمادها الشمس، والكائن الذي ترضع عيناه من الشمس، حقاً، لن ينطفئ: انظر إلى غزارة الشمس في هذه الإشراقات:

- قد لا تشرق الشمس في السماء يوماً، ولكن إحرص على أن تجعلها – تشرق في نفسك دوماً

- شمس الإرادة تحيل ظلام حياتك إلى نور

- اعلم أن الشمس لا تسطع في سمائك فقط، وإنما كذلك تسطع في سماء الآخرين

- من ينتظر الصباح، لا بدَّ أن يرى نور الشمس

- لكي يكون ظلّك واضحاً، تحتاج إلى أن تكون الشمس أمامك

- ليكن عقلك كالشمس في إشراقها، وقلبك كالبحر في عطائه، وروحك كالليل في سكينته

- لن تكون في الظل، إن أنت وقفت تحت الشمس

كل هذه الشمس، أو كل هذه الشموس هي معاً إشراقات هذه الكتابة ذات الإيقاع السريع الخالية تماماً من الثرثرة، من السهل عليك أن تثرثر، ولكن الصمت يحتاج إلى قوة روحية مالية هي عادة روحية من يمتلكون الحكمة، وكل حكمة وراءها تأمل، وكل تأمّل هو قراءة صافية لأرواح الناس وطباعهم وثقافاتهم.

الشمس، مرة ثانية، تُحيل إلى النور، تُحيل إلى كل ماهو نقيض للظلام. ومثلما يتوقف القارئ عند حضور الشمس في هذه الكتابة. كتابة الضمير، فإنه في الوقت نفسه يتوقف عند هذه الضميرية بالذات.. تقول عزة بنت محمد القاسمي: إذا وضعت ضميرك في حافظة نقودك، فلا تأسف عليه في المقايضة، وتقول: قد يسامحك الناس على أخطائك، ولكن لن يسامحك ضميرك عليها، ولا تبع ضميرك للآخرين لأنك لن تستطيع أن تشتري ضميراً آخر، وإذا بعت ضميرك يوماً، فسهل عليك أن تبيعه بقية العمر، و قد تمنع صوتك من قول الحق، ولكن لا تمنع ضميرك من ذلك، ومن يجعل ضميره في غرفة معتمة، فلن تنفعه الأنوار الآتية من الخارج.

الكتابة التي مركزها الضمير الإنساني الحيّ، والكتابة المغمورة بالنور هي بالضرورة كتابة العقل والروح والقلب:.. العقل يحرس الضمير، والروح تعطي النور، والقلب يمنح الجمال.

تتألف «الاشراقات» من جزءين، كانت هذه قراءة في الجزء الأول الصادر في عام ٢٠١٤، وفي حين صدر الجزء الثاني عن دائرة الثقافة في الشارقة في عام ٢٠١٨، وفي عام ٢٠٢٢ صدرت الاشراقات عن الدائرة ايضاً في نسخة مترجمة إلى الانجليزية بلغة ترجمانية شفافة تحمل روح الكاتب وضميره وحكمته وتوقيعاته الفكرية والأدبية والتأملية.

بهدوء، وبلا فرض قلمها ورؤاها وطبيعتها الأدبية تكتب عزة بنت محمد القاسمي. لا تقول لنا بالأبواق والأجراس والطبل والزمر إنها شاعرة أو روائية أو ناثرة أو فيلسوفة أو إنها أستاذة، بل، هي كاتبة ضمير ونور بطريقة أقرب إلى الهمس والكلام القليل:.. كلام الاكتفاء بالقليل القليل من اللغة، واللغة، كما يقولون كالماء.

لا تبدد عزة القاسمي هذا الماء. إنها في الاشراقات الأولى مطر خفيف، وليست عواصف ولا براكين ولا انفجارات. بل كلمة وراء كلمة. وفي الجزء الثاني من كتابتها هذه تفكر مرة ثانية في الكلمة وفي المعنى، ستكتب ايضاً عن الضمير، الحقيقة، الارادة، الحلم، الصداقة، الندم، السعادة، اليأس، الماضي، الجوع، الطيور، الأشجار، المعرفة، الكذب.

الصورة
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/26r7usvh

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"