دبلوماسيات في أوج نشاطها

00:05 صباحا
قراءة 4 دقائق

خلال أيام معدودة وفي أوقات متقاربة خرج من أمريكا إلى عواصم بعينها في الشرق الأوسط وزير خارجيتها ومستشار أمنها القومي ووزير دفاعها ورؤساء أهم أجهزة استخباراتها، خرج أيضاً ليتحدث إلى أشهر القنوات التلفزيونية الأمريكية والمعروفة بانتشارها العالمي مساعدون لهؤلاء المسؤولين الكبار. أكثر المراقبين فهموا أن الإدارة الأمريكية قررت تحريك قمم الدبلوماسية الأمريكية لمواجهة تطورات خارجية باتت تهدد في شكل من الأشكال مصالح أمريكية وتعيق أو تعطل تحقيق أهداف للسياسة الخارجية. المعنى الذي نذهب إليه هنا في هذه السطور هو أن الدبلوماسية لم تعد اختصاصاً لجهاز أوحد وأقصد جهاز وزارة الخارجية.

نذهب إلى معنى آخر وهو أن الجهة في الحزب الديمقراطي الموكل إليها اختيار المرشح لمنصب رئاسة الجمهورية في حال عودة بايدن عن قراره الترشح، أو في حال اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن صحة الرئيس لن تتحمل سنوات أربع أخرى في البيت الأبيض، هذه الجهة ربما وجدت أن بعض التطورات الأخيرة قد تكون متعمدة لانتهاز فرصة المرحلة الانتقالية في ولاية الرئيس بايدن للحد من نفوذ أمريكا ومكانتها في الخارج. أما هذه التطورات الأخيرة، سواء كانت متعمدة حسب الظن السائد في بعض دوائر نخبة واشنطن السياسية أو بريئة من هذا الظن أو غيره، فتتصدرها العناوين التالية:

*أولاً: الأزمة الرهيبة في إسرائيل باعتبار أنها مع امتدادها لأسبوع سابع والاتساع المطرد في عدد ضباط وجنود سلاح الطيران المضربين عن حضور برامج التدريب صارت تهدد أمن هذه الدولة. الأمر الذي يدرك الجميع أنه يحتل مكانة رئيسية في قائمة المصالح الحيوية لأمريكا في الشرق الأوسط، وأن المساس به يستدعي التدخل الحاسم والسريع. يحدث هذا التطور الخطِر بينما ترى أمريكا، ومعها العالم الغربي إصرار نتنياهو وحكومته على تعريض الديمقراطية كما تطبقها إسرائيل للخطر بانجراره وراء العناصر المتطرفة المطالبة بإدخال «إصلاحات» في النظام القضائي تهدف إلى تقييد استقلالية المحكمة العليا، فضلاً عن أنه المستفيد شخصياً في النهاية إذا عرف كيف يتخلص من القضايا التي قد تمس الأحكام فيها مستقبله السياسي. هذا المستقبل يراه معادلاً أو متجاوزاً في أهميته إنجازات بن غوريون وجيل الأوائل.

*ثانياً: تصاعد حماسة ونضال الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، والتصعيد المستمر للعنف العسكري من جانب الجيش والشرطة الإسرائيلية ومن جانب أعمال إجرامية قامت بها جماعات منظمة من المستوطنين مثل حرق الزراعات وبخاصة حقول الزيتون لما تمثله للفلسطينيين. أدت هذه الأعمال وتصعيد العنف المؤسسي إلى تذمر في الشارع العربي خارج فلسطين.

*ثالثاً: ترددت إيحاءات تدفع عن الدبلوماسية الأمريكية شبهة عدم العلم مبكراً بمساعي الصين للتوسط بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران لتحقيق تقارب بينهما ومساعدتهما على إعادة مستوى علاقاتهما الدبلوماسية إلى ما كان عليه قبل سنوات عديدة. أشهد بداية بكفاءة وقدرة الأطراف الثلاثة على التزام الكتمان طوال فترة الاتصالات والمباحثات التي جرت بينها. واضح من الشكل الذي سارت عليه المفاوضات أن الأجهزة الاستخباراتية في طرفين على الأقل نجحت في فرض أستار الكتمان، وهو الأمر الذي تحرص عليه الدول الثلاث على كل حال وفي مختلف الظروف انسجاماً وتمشياً مع نظم العمل السياسي فيها، ولدبلوماسيات هذه الدول، كما نعرف، تاريخ مشهود في التخطيط «الساكت». يحسب لها جميعاً تحقيق هذا الإنجاز في ظل ظروف دولية وإقليمية غير عادية. لا يفوتنا أن ممثلي الدول الثلاث في هذه المفاوضات يخضعون بدون شك وبحكم وظائفهم لرقابة استثنائية من جانب الدبلوماسيات الغربية وباستخدام إمكانات تكنولوجية بالغة التقدم.

نعلم، أن الأجهزة الأمنية الأمريكية ضاعفت اهتمامها بتطورات العمل السياسي والدبلوماسي السعودي منذ أن صارت دبلوماسية المملكة تعمل في صمت وتشارك في صنع سياسات وقرارات بعضه بحجم القوة التي أصبحت تحوز عليها والنفوذ الذي صارت تتمتع به وتمارس بعضاً منه.

بكلمات أخرى أميل إلى الرأي القائل بأن جهات في الغرب وقيادات سياسية محدودة العدد كانت على علم بما تقوم به الدبلوماسيات الثلاث وأن الرأي انتهى إلى فائدة ترجى من عدم إجهاضها؛ بل وربما منحها الفرصة كاملة لتصل إلى نهايتها. لا يعني هذا أن أمريكا لن تضغط بكثير من أدواتها الدبلوماسية لإحباط هذا التقارب الثلاثي إن وجدت هذا التدخل من جانبها ضرورياً.

*رابعاً: الأزمة في العراق كما في سوريا مستمرة ومعقدة إلى حد يستدعي حسب رأي واشنطن استمرار وجود القوات الأمريكية في البلدين. الوجود الأمريكي هناك صارت له علاقة بتطور المفاوضات السعودية الإيرانية وله علاقة أهم بتطور سباق النفوذ والقوة في منطقة الشرق الأوسط. بدأ السباق فاتراً ويتطور في اتجاه توازن قوة جديد في النظام العربي يعقبه وضع منظومة قواعد عمل لنظام شرق أوسطي يقنن الاختراقات المستمرة من جانب دول الجوار لحدود النظام الإقليمي العربي. على كل حال عادت أمريكا إلى سياسة التوسع في نشر قواعد عسكرية لها في الخارج وتعزيز القائم منها. تدخلت دبلوماسيتها في الفلبين حتى استعادت واحدة من أكبر قواعدها وأهمها في جنوب شرق آسيا.

بالنسبة لنا يتعين أن تكون المرحلة القادمة مرحلة العمل الدبلوماسي بامتياز ليس فقط لإعادة رسم حدود النظام العربي ووضع قواعد عمل جديدة له، ولكن أيضاً لابتكار علاقة من نوع خاص تربطه بدول جوار تأهبت بالفعل لمرحلة مختلفة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/t8feae27

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"