عادي
الحرب في أوكرانيا تجدد 5 قرون من الصراع بين الدولتين

روسيا وبولندا.. خلافات الماضي ترسم مستقبل أوروبا

00:01 صباحا
قراءة 7 دقائق

د.أيمن سمير

تستعد بولندا لأكبر مناورة عسكرية قد تقود إلى توسيع دائرة الحرب الروسية الأوكرانية عندما تستضيف وارسو المناورة الثلاثية المشتركة التي تجمعها مع الولايات المتحدة وألمانيا في الأسابيع القادمة، وهي «المناورة» التي يراها الكثيرون في أوروبا وروسيا بأنها أكبر «استفزاز» عسكري لموسكو على الحدود الأوكرانية البولندية، منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022.

سبق هذه الخطوة طرح الكثير من الأسئلة حول أسباب اختيار الرئيس الأمريكي جو بايدن لبولندا، وعاصمتها وارسو، ليلقي منها خطابه ضد روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين بمناسبة مرور عام على الحرب الروسية الأوكرانية، فالرئيس بايدن لم يذهب مثلاً إلى ألمانيا التي بها نحو 36 ألف جندي أمريكي، وبها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية للجيش في أوروبا هي قاعدة «رامشتاين»، وزاد طرح الأسئلة عندما جمع الرئيس الأمريكي في بولندا أيضاً، قادة وحكام 9 دول من شرق أوروبا «مجموعة بوخارست» هم «بولندا ورومانيا وبلغاريا والمجر والتشيك وسلوفاكيا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا»، ليطرح عليهم رؤية الإدارة الأمريكية للعام الثاني من الحرب الروسية الأوكرانية، رغم توقع البعض سماع هذه الرؤية في بروكسل أو باريس أو حتى في أمستردام

الصورة

5 قرون من الصراع

لكن النظر بعمق في 5 قرون من الصراع الروسي البولندي يجيب على هذه التساؤلات، ويكشف الأسباب التي تجعل من بولندا التي لها نحو 500 كلم من الحدود المشتركة مع أوكرانيا «رأس الحربة»، وهي التي تقود جبهة «الصقور» في حلف «الناتو» والاتحاد الأوربي ضد العملية الروسية العسكرية في أوكرانيا، لهذا قادت بولندا ودون تردد كل الخطوات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تراها موسكو خطوات عدائية واستفزازية، يأتي في مقدمتها إرسال بولندا أول دبابة ألمانية «ليوبارد 2» إلى الجيش الأوكراني الأسبوع الماضي، لتكون بذلك أول دبابة غربية تصل لأوكرانيا بهدف تشكيل كتيبتين من الدبابات الغربية استعداداً لحرب الربيع، كما كانت بولندا من أوائل الدول التي توقفت عن استخدام الغاز والنفط الروسي، وما زالت بولندا منفتحة على أي عمل من شأنه ضمان انتصار كامل لأوكرانيا، وهزيمة ساحقة لروسيا بما فيها استعداد بولندا لاستضافة «قنابل نووية» على أراضيها من دول حلف شمال الأطلسي «الناتو»، كما أن كل المساعدات العسكرية الغربية إلى كييف تمر عبر الحدود البولندية الطويلة مع أوكرانيا، ولا تزال المقترحات البولندية بتسليم أوكرانيا طائرات أمريكية من طراز «أف 16» مرفوضة من واشنطن والعواصم الغربية، وتصر بولندا على حاجة أوكرانيا للطائرات الغربية لتأمين الأجواء الأوكرانية خلال المعارك التي يتوقع لها أن تبدأ مع نهاية شهر مارس الجاري

الصورة

ترسانة عسكرية حديثة

ولم تتوقف بولندا في خلافاتها مع روسيا عند هذا الحد بل أصبحت وارسو من أكثر دول «الجناح الشرقي» في حلف الناتو «التي تشتري أسلحة أمريكية وغير أمريكية، أبرزها شراء منظومة الدفاع الأمريكية باتريوت بنحو 4.7 مليار دولار 2018، وشراء 32 طائرة أمريكية من طراز «أف 35» عام 2019، بالإضافة إلى عشرات المنظومات الدفاعية مثل صواريخ «جالفين، وستينجر، وهايمارس، وناسامز»، وقبلها بسنوات وافقت وارسو على نشر منظومة الدفاع الصاروخية الأمريكية مع رومانيا منذ 2007.

ليس هذا فقط، فبولندا كانت من أوائل دول حلف الناتو التي وصلت إلى عتبة إنفاق 2 % من الناتج القومي على الدفاع وشراء الأسلحة، ومن يحلل الخطاب السياسي والإعلامي البولندي سوف يتأكد له أنه الأكثر حدة وقوة ضد روسيا، فما هي أسباب هذا العداء والخلاف بين روسيا وبولندا؟ وهل يمكن أن يتطور الصراع السياسي بين البلدين إلى حرب ساخنة؟

الصورة

اختفاء بولندا

قبل أكثر من 5 قرون بدأ الصراع بين موسكو ووارسو، وكانت قوة وتمدد أي طرف من الطرفين يعنيان تقليص وضعف نفوذ الطرف الأخر، ودائماً ما كانت الأراضي التي تشكل «الجغرافية الأوكرانية» الحالية هي «درة النزاع والخلاف» بين البلدين، وكان كلاهما يتبادل السيطرة على الأراضي الأوكرانية، وهو ما يدفع الكرملين للاعتقاد بأن الدعم البولندي ليس من أجل وحدة وسلامة الأراضي الأوكرانية، بل لأن بولندا طامعة في أراضي شمال وغرب أوكرانيا بما فيها مدينة «لفيف» القريبة من الحدود البولندية.

على الجانب الآخر تتهم بولندا روسيا بأنها كانت السبب وراء اختفائها من «الخريطة العالمية» لمدة تصل لنحو 125 عاماً منذ عام 1795 حتى ظهور الدولة البولندية الثانية عام 1919 بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ونتيجة لاتفاقية فرساي.

وتكشف الحرب الروسية الأوكرانية مدى الصراع والتنافس المتجذر بين الأمتين الروسية والبولندية، وتأثير كل منهما في الآخر حيث تجدد الصراع مرة أخرى عندما قامت الثورة البلشفية في روسيا بعد أن دخل الطرفان الحرب من جديد عام 1919 وحتى عام 1921، والمفارقة هي أن أوكرانيا كانت تصطف مع روسيا ضد بولندا التي نجحت بدعم فرنسا في احتلال كييف عاصمة أوكرانيا عام 1920 قبل أن تخرج منها على يد الجيش الأحمر حيث كان الزعيم السوفييتي لينين يرى أن نجاح الشيوعية في أوروبا يحتاج لتجاوز «عقبة بولندا» للاتجاه غرباً نحو أوروبا.

الصورة

إسقاط الاتحاد السوفييتي

رغم نشر روسيا عام 2007 حوالي 400 وثيقة تقول فيها إن بولندا تحالفت مع هتلر قبل اجتياح ألمانيا لبولندا في سبتمبر 1939، إلا أن الثابت أن ألمانيا النازية احتلت بولندا عام 1939 ونجح الاتحاد السوفبيتي مع الحلفاء في تحريرها مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.

وبنهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا تحولت بولندا نحو الشيوعية، وكرد فعل على تأسيس الولايات المتحدة لحلف دول شمال الأطلنطي«الناتو» عام 1949 ومحاولة ضم ألمانيا الغربية للحلف، جرى تشكيل «حلف وارسو» والذي ضم الاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية في شرق ووسط أوروبا عام 1955، وكان مقره وارسو عاصمة بولندا، واستمرت بولندا تلعب هذا الدور لمدة 36 عاماً حتى بدأت مظاهرات ميناء جدانسيك بزعامة ليخ فاونسا عام 1988، وهي الشرارة الأولى التي أدت في النهاية لانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 وبعدها بنحو 8 سنوات، وفي مارس 1999 انضمت بولندا إلى حلف الأطلنطي لتبدأ مرحلة جدية من الصراع الروسي البولندي.

رأس حربة متقدم

بالرغم من تقارب البلدين عام 2010 بعد أن اعترفت روسيا بمذبحة «كاتين» التي قتلت فيها الشرطة السرية السوفييتية في إبريل عام 1940 نحو 22 ألف جندي بولندي، إلا أن بولندا تحولت «لرأس حربة متقدم» ضد موسكو بعد سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014 حيث شعرت بولندا وبلغاريا والتشيك وسلوفاكيا ومعهم دول بحر البلطيق الثلاث لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، شعروا بإمكانية غزو روسيا ومعها بيلاروسيا، التي تجاور بولندا من الشمال للأراضي البولندية، من هنا بدأت بولندا في استقبال مزيد من القوات الأمريكية منذ عام 2017، كما أن بولندا أصبحت من أهم الدول التي تستضيف المجموعات القتالية الأربع التي وضعها الناتو في بولندا ودول البلطيق لمواجهة أي غزو روسي محتمل من عام 2018، وبالإضافة لشراء بولندا طائرات «أف 35»ا الأمريكية الحديثة، ومنظومة الدفاع الجوية «باتريوت» تحولت بولندا إلى ساحة لإجراء «المناورات السنوية» للناتو بالقرب من الأراضي الروسية مثل مناورات «الرمح الثلاثي 18» التي جرت عام 2018، و«نسيم البحر 2021» في البحر الأسود، ووجدت بولندا دعماً كبيراً من الولايات المتحدة وحلف الناتو في خطواتها ضد موسكو، ومن أشكال هذا الدعم منح الولايات المتحدة البولنديين حق دخول الأراضي الأمريكية دون تأشيرة، كما يعيش نحو 10 ملايين أمريكي من أصول بولندية في الولايات المتحدة، وتعمل الولايات المتحدة في الوقت الحالي على تحديث الجيش البولندي ليكون في مكانة عسكرية أعلى من الجيش الروسي، فبعد تسليم أوكرانيا ودول الجناح الشرقي لحلف الناتو غالبية الأسلحة والذخيرة التي كانت بحوزتهم إلى أوكرانيا في العام الأول من الحرب بدأت بولندا في تحديث كامل لجيشها ليس فقط بالأسلحة الأمريكية والأوروبية بل بالتعاقد على شراء نحو 1000 دبابة، 48 طائرة مقاتلة، بنحو 14.5 مليار دولار

حسابات بولندية

تقوم التقديرات البولندية على أن الدعم العسكري الغربي لدول بحر البلطيق والجناح الشرقي لحلف الناتو هو «السبيل الوحيد» لإقناع روسيا بعدم توسيع الحرب ولهذا تقوم بولندا بعدد من الخطوات ومنها:

  1. تحديث الجيش البولندي بما يقنع الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو بالاعتماد عليه حال هجوم روسيا على أي دولة من دول الناتو
  2. تسلم كل ما تستطيع من عتاد وسلاح سواء كان سوفييتي الصنع أو من الدول الغربية مثل الدبابة «ليوبارد 2 الألمانية» والتي كانت وارسو تحتاج إلى موافقة برلين على تسليمها لأوكرانيا، وتستعد بولندا لتدريب الطيارين الأوكرانيين على قيادة «طائرات أف 16» الأمريكية للضغط على البيت الأبيض والبنتاجون لتسليم هذه الطائرات لأوكرانيا
  3. دعم الدول المحاذية لروسيا مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا حتى لا تفكر موسكو في اجتياح هذه الدول الصغيرة
  4. وضع الجيش البولندي في حالة استنفار دائم على الحدود البيلاروسية، لأن التقديرات البولندية تقول إن روسيا يمكن أن تهاجم من جديد العاصمة الأوكرانية كييف من الجبهة الشمالية ناحية بيلاروسيا، ولهذا اشترت الحكومة البولندية تكنولوجيا عالية الدقة على طول الجدار المعدني مع بيلاروسيا، بالإضافة إلى تركيب ذات التكنولوجيا على طول 210 كيلومترات من الحدود البرية مع كالينينغراد، بالإضافة إلى تجميع ثلثي قواتها البرية على حدود بيلاروسيا ومنطقة كالينينغراد
  5. استضافة بولندا نحو 25 % من إجمالي القوات الأمريكية في أوروبا التي يصل عددها لنحو 100 ألف جندي، وتعتقد وارسو أن وجود 25 ألف جندي أمريكي مع باقي قوات أخرى من حلف الناتو قادرة على ردع روسيا
  6. مواصلة بولندا لمطالبها باسترداد الأراضي التي ضمها الاتحاد السوفييتي السابق إلى روسيا الفيدرالية، لكن هذا التوجه يقابل بمطالبة بعض القوميين الألمان باسترجاع الأجزاء التي ضمتها بولندا من ألمانيا مقابل ضم الاتحاد السوفييتي أراضي من بولندا.

المؤكد أن ترك الماضي للماضي، والبحث عن المصالح والقيم المشتركة، وتسوية الصراع حول أوكرانيا يمكن أن تكون خطوات تمهد الطريق نحو بناء ثقة ظلت مفقودة منذ قرون وعقود بين روسيا وبولندا، وهو هدف ليس فقط من أجل عودة السلام والاستقرار لشرق أوروبا بل للعالم أجمع.

 

ممر سوفالكي

يشكل «ممر سوفالكي» المنطقة العسكرية الرخوة لبولندا في مواجهة روسيا، وهو ممر يصل طوله لنحو 100 كلم، وهو الممر البري الوحيد الذي يربط دول ليتوانيا ودول بحر البلطيق ببولندا وحلف الناتو، وتجاور روسيا «ممر سوفالكي» عبر مقاطعة كالينينغراد بأقصى غربي روسيا، بينما تحاذي بيلاروسيا الموالية لموسكو «ممر سوفالكي» من الشرق، وينظر حلف الناتو وبولندا لهذا الممر باعتباره أضعف نقطة في حدوده البرية الخارجية، لذلك أجرى عام 2017 في هذا الممر مناورة «الذئب الحديدي»، وفي حالة نشوب حرب بين بولندا وروسيا، ستضطر موسكو لاقتحام الممر المؤدي إلى مقاطعة كالينينغراد عبر أراضي دول البلطيق، وهو ما سيقود إلى دخول 4 دول في حرب مباشرة مع روسيا هي بولندا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2utae8dk

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"