الصين كقوة عظمى في عالم يتغير

00:32 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

أعلنت الصين عن نفسها لاعباً دولياً يأخذ صفة القوة العظمى في تفاعلات وحسابات عالم يتغير بأزمتين كبيرتين ومعقدتين.

الأولى، باحتضان المصالحة السعودية الإيرانية وسيطاً وضامناً. وقد حققت وساطتها اختراقاً جوهرياً رغم التحديات والمخاطر الماثلة.

والثانية، بالمبادرة النشطة للتوصل إلى حل سياسي للحرب الأوكرانية (لقاء في موسكو غداً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحوار بالفيديو كونفرنس منتظر مع الرئيس الأوكراني فولاديمير زيلينسكي).

لم يعهد عن بكين لعب مثل هذه الأدوار التي تنتسب بتأثيراتها وفاعليتها إلى عوالم القوى العظمى. لعقود طويلة ومتصلة حاولت بقدر ما تستطيع أن تنفي أنها قوة عظمى رغم تراكم المال والسلاح الذي تحوزه.

«لسنا قوة عظمى.. نحن دولة نامية من العالم الثالث، مازلنا تلاميذ على مقاعد الدرس والتعلم من تجارب الدول الأخرى».

بتلك العبارة القاطعة، احتج أساتذة صينيون في كلية اللغات الأجنبية بجامعة بكين على وصف بلادهم بأنها «قوة عظمى» أثناء حوار مسهب معهم خريف 2017.

لم يكن ذلك تواضعاً بقدر ما كان التزاماً بسياسة النفَس الطويل.

«هناك مناطق واسعة تعاني فقراً مدقعاً، ومن أولوياتنا تحسين أحوالها ومستويات معيشتها قبل ممارسة أي أدوار تنتسب لعظمة القوة».

لم تكن الصين في عجلة من أمرها للعب أي أدوار عظمى، كأنها تجلس بصبر على حافة النهر في انتظار جثة عدوها طافية، على ما تعلمت من حكيمها «كونفوشيوس». أكثر ما يثير الالتفات في التجربة الصينية، قدر التواضع بالنظر إلى حجم الإنجاز وحجم تراكم خبرة بناء الدولة من دون صدام مع شرعية الثورة، التي قادها إلى النصر عام 1949 زعيمها «ماو تسى تونغ».

بعد رحيل «ماو» عام 1976 دخلت الصين لمدة عامين في صراعات سلطة وفترة حيرة في أي طريق تذهب، حتى أمسك بمقاليدها «دينغ هسياو بينغ»، نائب رئيس الوزراء التاريخي «شواي لاي» وتلميذه الأقرب، وشرع في وضع اللبنات الأولى لسياسة الانفتاح الاقتصادي، وفق ما أطلق عليه «اقتصاد السوق الاجتماعي».

الانتساب إلى «ماو» مسألة شرعية، غير أن الماوية، من حيث هي أفكار وتصورات وسياسات تكاد تكون قد طويت.

احترام إرث الماضي وتصحيحه دون صخب، مكّن البلد من عبور أي منزلقات تُعِيقُ تقدمه خطوة بعد أخرى على طريق الألف ميل، استلهاماً للحكمة الصينية الشهيرة. هذا من مقومات سياسة النفَس الطويل وتصحيح الأخطاء ومواجهة الحقائق، كما هي على الأرض بلا ادعاء تواضع.

المبدأ الصيني الحاكم في إدارة السياسة العامة يمكن تلخيصه على النحو التالي: أكبر قدر من المصالح وأقل قدر من المنازعات.

لماذا تتقدم الصين الآن إلى حيث لم يعهد عنها طوال رحلتها الطويلة؟

هذا سؤال جوهري تعود إجابته إلى دواعي القلق عند التنين الصيني من متغيرات السياسة والسلاح في عالمها وحولها ومدى الأخطار التي قد تحيق بها.

هناك، أولاً، محاولات أمريكية لا تتوقف لجرها إلى سباق تسلح يستنزف مشروعها الطموح للقفز إلى المرتبة الأولى في الاقتصادات العالمية على حساب الولايات المتحدة التي تتمتع بثقل القوة العظمى الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

حسب معهد ستوكهولم، فإن النفقات العسكرية العالمية السنوية تجاوزت تريليوني دولار لأول مرة. رفعت الصين منسوب إنفاقها العسكري من دون زيادة كبيرة، خشية استنزاف طاقتها وقدرتها على النمو الاقتصادي المضطرد.

وهناك، ثانياً، تحديات أمنية ضاغطة تطرح عليها في المحيطين الهادئ والهندي ومن جزيرة تايوان، التي تعتبرها بكين جزءاً من أراضيها، وفق مبدأ «صين واحدة» المستقر دولياً.

بصورة أو أخرى، الصين لا تريد أن تتورط في مواجهات عسكرية مباشرة، لكنها لا تستطيع أن تصمت على التهديدات الماثلة على حدودها.

بين الخيارين الخطيرين تحاول الصين أن تجد منافذ سياسية تمكنها من إثبات حضورها الدبلوماسي وقدرتها على الردع، تجنباً لأية مواجهات تحرفها عن طموحها الاقتصادي.

وهناك، ثالثاً، خشية من أن يكون الدور عليها إذا ما نجحت الولايات المتحدة في كسب الحرب الأوكرانية وتقويض الدور الروسي.

يصعب على بكين التخلي عن موسكو، ويصعب عليها بذات القدر أن تتورط في الحرب الأوكرانية. التخلي نذير ضربة مماثلة تلحق بها تالياً، والتورط دخول في فخ الاستنزاف.

لعرقلة أي صعود صيني محتمل على حساب أدوار وأوزان الولايات المتحدة، تمارس واشنطن بحقها ابتزازاً سياسياً يتهمها من دون دليل واحد بإمداد الروس بأسلحة وذخائر.

كان ذلك الاتهام المعلق على النوايا، أقرب إلى سيف مسلط يستهدف عرقلة الطموح الاقتصادي الصيني، وتهديده بفرض عقوبات اقتصادية عليه.

ربما وجدت الصين أن الوقت حان للتقدم الحذر إلى منصة القوى العظمى من باب المبادرات النشطة، أرادت أن تقول وهي تتقدم لإعادة توصيف أدوارها الدولية إنها قوة سلام وأمن واستقرار.

الغرب يترقب ما قد يحدث في المستقبل، والصين أمامه لغز يستعصي على الفهم والإحاطة. والعالم العربي يتابع الصعود الصيني من دون يقظة حقيقية تساعد على فهم ما قد يحدث بنا وحولنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/34y5r6jn

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"