بين عالميْن

00:31 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

هناك تحوّلات استراتيجية تجري أطوارها شرقاً وغرباً في العالم الذي حوّلته العولمة إلى قرية صغيرة. وهذه التحولات تنبئ بميلاد عالم جديد والأهم هو نهاية عالم سيطرت فيه الحضارة الغربية على شؤون الكوكب سلماً وحرباً طوال القرن العشرين.

تدافع القوى العالمية بقيادة الصين من جهة وأمريكا من جهة ثانية، سيؤدي في نهاية المطاف إلى ميلاد هذا العالم الذي لن يكون بكل حال من الأحوال عالم «الشرطي الواحد». ولعل ما يميز هذا المخاض هو قدرة القوى الصاعدة على تسفيه تلك الأفكار التي بشّرت بنظام معولم يسوده الرخاء والسلام والأمن. فما حدث ويحدث ليس سوى ترجمة لتلك التي النظريات التي دافعت عن فكرة «نهاية التاريخ وصدام الحضارات».

إن التحولات الجارية، تثبت أن عالمنا يمكنه أن يكتب علاقات إنسانية جديدة وأن يرسي علاقات تعاون بعيداً عن الصراع والاحتراب، والسمات التي رسختها العولمة الغربية طوال العقود الماضية. فأن تنجح الصين في ترتيب «حالة سلم» بين السعودية وإيران في الشرق الأوسط، فذلك سيعني سحب البساط من تحت مشروع حرب جديدة في المنطقة سعت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى توريط العرب فيها، كما يعني تهدئة ربما تكون دائمة في الجزيرة العربية ومنطقة الهلال الخصيب، وهذا سيكون له تأثير واضح حتى في العلاقات العربية؛ حيث من المنتظر أن تعود سوريا إلى الحاضنة العربية، وتنتهي معاناة شعب محاصر ودولة تم تخريبها طوال أكثر من عقد من الزمان كما سينعكس هذا إيجاباً على القضية اليمنية.

ونحن على يقين بأن العالم بات اليوم على أعتاب تحولات جذرية عميقة، ستعاد فيها هندسة العلاقات الدولية، كما ستبنى فيها التحالفات على قواعد مختلفة عن تلك التي سادت زمن الهيمنة الغربية. وهناك تدافع بين القوى التي تقدم نفسها على أنها قوى «خير» وتلك التي انبنت عليها صورة «الشر» وهي ذاهبة إلى الأفول حتماً إن واصلت تعاملها مع بقية الشعوب بذات العقليات والآليات التي حكمت العلاقات في العقود الماضية.

وهذه الخطوة الصينية التي تم الترتيب لها بعيداً عن الإعلام، تثبت أن الصين، قوة سلام واستثمار وازدهار على خلاف المشاريع الأمريكية في المنطقة والتي كانت مبنية على فكرة «دعهم يتقاتلون». وعليه فإن مناطق أخرى من العالم عليها أن تستوعب هذه التحولات وأن تنخرط في مسارات للتعاون بعيداً عن لغة الصراع والاحتراب. وأهم منطقة وجب أن يعي قادتها هذه التحولات هي منطقة المغرب العربي وأساساً الجزائر والمغرب، والدرس السعودي الإيراني يمكن أن يتم استنساخه في المغرب العربي من أجل خير شعوب المنطقة مستقبلها المشترك.

إن التحولات الجارية تَظهر في تحول الخطابات السياسية لعدد من الدول الإفريقية، وهي خطابات تذكرنا بزعماء قادة دول عدم الانحياز في السنوات التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كانت نبرة حركات التحرر الوطني عالية تجاه القوى الاستعمارية التقليدية. وعندما يعود الخطاب اليوم بهذه الطريقة وبهذا النفس التحرري الذي يعبّر عن رغبة الأفارقة في الإمساك بناصية قرارهم السياسي، فإنه مؤشر على تصدع خطِر في المنظومة السياسية الدولية التي كانت قائمة، وإعلاناً صريحاً عن هذه التغيرات التي تمهد لميلاد عالم جديد.

عالم يمكن أن يكون فرصة للجميع للاستفادة من تشبيك العلاقات الاقتصادية ضمن عولمة أكثر إنسانية وانفتاحاً وأقل توحشاً واستعلاء. شعوب العالم يمكنها العمل معاً لما فيه خيرها المتبادل، والهيئات الأممية يمكن أن تلعب دورها الحقيقي وأن تكون فعلاً وقولاً منظمات جامعة محققة للعدل والسلام.

هذا هو العالم الذي تروم الشعوب تحقيقه، وغير ذلك لن يكون سوى المزيد من الانحدار نحو صراعات لا تنتهي وأزمات أكثر خطورة. لقد دفعت القوى العظمى ثروات لا تحصى من أجل التسلح وتمويل الصراعات، وآن لهذا النزيف أن ينتهي، ففي العالم شعوب تحلم بأن يكون المستقبل أفضل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3krpsrxv

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"