عادي

الشاعر وحليب الرضاعة

23:30 مساء
قراءة 7 دقائق
لوحة لجبران خليل جبران

الشارقة: يوسف أبولوز

في 8 فبراير/ شباط 2016 نشرت في ملحقنا الثقافي في جريدة الخليج استطلاعاً أجريته مع عدد من الشعراء العرب، تحدثوا فيه عن أمهاتهم وآبائهم، ويومها اخترت عنواناً للاستطلاع كان «الأمّهات صانعات الشعراء. والآباء حرّاس القصائد».. فهل أم الشاعر هي فعلاً صانعته الأولى؟ بدءاً من وهو كائن بشري عائم في مياه الرحم، إلى أن يصبح رجلاً بشنب يقف عليه الصقر كما يقولون كناية عن اكتماله ونضجه وصولاً إلى فحولته، و«الفحولة» مصطلح شعري كما نعلم نشأ في أسواق الشعر في الجاهلية وقبيل الإسلام مثله مثل مصطلح «الطلل» وهو المكان الحنيني الذي كان يهيج عاطفة الشاعر، وفي العادة هو مكان امرأة، وفي العادة أيضاً يرتبط الطلل بامرأة حبيبة أو زوجة أو عاشقة.

لم يذكر تاريخ الشعر العربي على وجه الدقة طللاً أُمِّيّاً، أي، له صلة بأم الشاعر مباشرة أو بشكل غير مباشر، لا بل كانت الأمّهات، في زمنهن العربي القديم أو العتيق غليظات الأكباد إن أمكن القول، ولم تتورّع عائشة أم عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة عن توبيخه قائلة له:..

إبكِ مثل النساء مُلكاً مضاعاً

لم تحافظ عليه مثل الرجال

.. وكأنها تسقط عن ابنها صفة الرجولة أو الرجولية حين غادر الأندلس، وسلّم حكمه وملكه للملك فرديناند وزوجته إيزابيلا.

نماذج

هذا قلب أم تستطيع القول إنه لم يكن قلباً رحيماً بهذا التوبيخ الذي لقيه الملك المهزوم ودموعه تجري على وجهه، ولكن يبدو أن قلوب أمّهات الشعراء مصنوعات ربما من الحرير، وهنا، أعود بك قليلاً إلى الاستطلاع الذي نشرته قبل نحو سبعة أعوام، فقد استنتجت منه أن الكثير من الأمّهات كن يجدن الغناء وسرد الحكايات، وهن في الأغلب أصبحن أمّهات وبعضهن لم تصل العشرين من عمرها، فقد تزوجن مبكراً، ومبكراً قد تترمّل المرأة وتصبح امرأة شابة يعز عليها أن تتزوج مجدّداً وبخاصة إذا كانت تحب زوجها، وبعضهن أمّهات فلّاحات، مزارعات، أو حطّابات، وكانت أمي حطّابة وهي في الثامنة عشرة من عمرها أو أكثر بقليل، وكانت ترعى الغنم، وإن كان من حادثة مرّت بي وبها وظلّت عالقة في ذاكرتي إلى اليوم وأنا فوق الستين من عمري، ولم أستطع أن أحوّل تلك الحادثة إلى شعر لأن تفاصيلها أكبر من الشعر، فهي حكاية الشاي الناشف، فقد كنت في صباي مولعاً بشكل جنوني بشرب الشاي؛ بل كان الخبز والشاي هو طعام فقراء ذلك الزمان، ونحن كنّا من بينهم، حين نفد الشاي الأسود الخشن من بيتنا، فما كان من أمّي إلاّ أن قامت بتنشيف الشاي الرطب المستعمل في الإبريق منذ أمس، جففت الشاي تحت الشمس وأعادت غَلْيَه مرة ثانية، ووفّرت لي شاياً بطريقتها هي الشابة آنذاك، الحطّابة وراعية الغنم ذات التسعة عشرة عاماً في برّية صامتة محاطة بالجبال.

أردت من وراء سرد هذه الحكاية أن أصوّر لك مقطعاً صغيراً من صنف أمّهات زمن مضى، وربما نجد مثيلاً لأمّي ولأمّك القروية الفلّاحة حتى في – زماننا هذا في قرى نائية، بعيدة، هادئة في بقاع من العالم. أمّهات صغيرات شابات. يجففن الشاي، وأيضاً، يجففن الدموع.

علاقة

ولكن، ماذا عن حليب الرضاعة.. والكتابة؟

هل من صلة بين رحم الأم وصدرها وخصوصية حليبها، واستطراداً، هل من صلة بين المثل العربي القائل: «.. تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها..»، أي أن المرأة الحرة تجوع ولا تؤجّر حليبها مقابل المال لترضع به أبناء الآخرين،... وبين خصوصية رضاعة الأم لابنها الذي قد يكون شاعراً ذات يوم؟

قبل الاستطراد في بناء علاقة بين رضاعة الأم، وبين الكتابة أشير إلى قراءة بعض الأمّهات بصوت مرتفع وهنّ حوامل، فالمرأة الحامل – تقرأ لجنينها في هذه الحالة، وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الجنين يسمع قراءة أمّه، بالطبع ربما يسمع صوتها أو أنه يسمعه بالفعل، ثم يتراكم هذا الصوت في ذاكرة الجنين على شكل قراءات يومية متتالية، وإذا أردت القول، فإن قراءة الأم لجنينها هي بالفعل أوّل تكوين ثقافي للجنين بخاصة إذا كانت أمّاً متعلّمة.

البداية، إذاً، «بداية الكتابة» تنطلق من الرحم في تلك المرحلة الجنينية السديمية التي يعوم فيها الكائن البشري قبل أن يخرج إلى الحياة، وفي الخارج، خارج جسد أمّه، فإن أول ما يلتصق به هو الصدر، وأوّل ما يتذوّقه هو حليب أمّه.. وفي الواقع، فالطفل أو الجنين المولود لا يتذوّق الحليب فقط؛ بل، يحتفظ إلى الأبد بأول رائحة، وهي رائحة أمه أو صدر أمه، وعادة يرضع الطفل وعيناه مصوّبتان تحديداً إلى وجه أمه على نحو عمودي مباشر، وهي أوّل صورة إنسية يراها.. وكل ذلك، الحليب ورائحته ومذاقه، ورائحة الأم وعيناها هي أوّل صور حسيّة، بلاغية، واقعية، حيوية.. يراها الشاعر، إذا قُدِّرَ لهذا الكائن الوليد – أن يكون شاعراً.

علمياً، يتألف حليب الأم من شبكة عظيمة من القيم الغذائية:.. أحماض دهنية، بروتين، كازين، صوديوم، كلور، فوسفور، كالسيوم، وغير ذلك من مكوّنات بوسعها أن تغذي حصاناً وليس طفلاً، وفي القرى الريفية وعند الفلّاحين تحديداً ترضع بعض الأمهات أطفالهن حتى بلوغهم الثالثة والرابعة وأحياناً في حالات قليلة حتى الخامسة من أعمارهم، وفي هذه الحالة تكون الأم المرضعة قد غذّت طفلها بمادة تأسيسية ينشأ معها الطفل عادة قوياً؛ بل، عنيداً، صلباً متين البنية، قليل الأمراض، لا بل نادراً ما يمرض.

صلابة

في الكثير من المقابلات الصحفية ذات الطابع السِّيري الطفولي أشار شعراء وروائيون وفنانون إلى فترة الرضاعة الطويلة هذه، وهم يعيدون صلابتهم وإقبالهم على الحياة بقوّة إلى فترة الرضاعة الطبيعية هذه، وقد قالت لي أمي ذات يوم إنها أرضعتني حتى الثالثة من عمري، وذكر الكاتب الصحفي، الدبلوماسي والوزير السابق في الحكومة الأردنية محمد داودية أن له أربع أمّهات، فقد رضع من أربع نساء كما جاء في مذكراته البالغة الرجولية والعصامية «من الكسارة إلى الوزارة»، والأغلبية من شعراء الريف أقوياء البنية، ليس فقط أقوياء البنية الجسدية؛ بل أيضاً أقوياء البنية الكتابية، وبلاغياً، يوصف النص الأدبي الرّيفي أو القروي عموماً ب «النبوغ»، وهي صفة تحيل إلى نباهة الطفل منذ وهو رضيع.

يلاحظ أيضاً أن الطفل المكتفي بالرضاعة هو في الوقت نفسه من الناحية السيكولوجية مكتف بالحنان، وأغلب الشعراء الذين تربطهم عاطفة حنان قوية بأمّهاتهم كانوا في الأصل قد اكتفوا غذائياً بفترة الرضاعة.

إنها على نحو ما الفترة – الفردوسية التي لم يعرفها رامبو او بودلير أو غيرهما من الشعراء الذين – تذكر سيرهم الذاتية أنهم لم يكونوا محظوظين – بأمهات مرضعات وما تحمله هذه الكلمة من دلالات، أو، العكس أن تكون هؤلاء الأمهات غير محظوظات بأبناء حفظوا حليب صدور أمهاتهم، وفي القرى والأرياف الشعبية تندب المرأة حظها قائلة «واحسرتاه على الحليب الذي أرضعتك..» كناية عن عقوق أو نكران أبداه الابن تجاه أمه. نلاحظ أيضاً أن العلاقة المضطربة أو المتوترة أحياناً، أو قل العلاقة الفاترة أو الباردة بين الكاتب وأمه تعود إلى البيئة المكانية، ففي القرية مثلاً، مكان المرضعات الشابات غير المتعلمات تكون العلاقة بين الكاتب أو المثقف وبين أمه مختلفة كلياً عن العلاقة بين الكاتب وأمه في المدينة؛ حيث تلعب الثقافة هنا دورها المعاصر الذي يصل أحياناً إلى حد التشويه أو التشويش على الجوهر الفطري لذلك – الحليب الأول الذي قد لا يكون رضعه الكاتب بشكل كافٍ، أو بشكل قروي، ريفي، فلّاحي مشبع؛ بحيث يرشح الحنان بكل شفافيته من النص الأدبي «المشبّع بحليب الأم».

المثال على ذلك، أورده هنا من بيئتين.. بيئة مدنية، تستطيع القول إنها بيئة ارستقراطية للمفكر البروفيسور إدوارد سعيد، وبيئة نقيضة تماماً.. بيئة فلاحية، ريفية بسيطة بساطة الأرض والناس للشاعر د. وليد سيف.

لم يتحدث إدوارد سعيد عن أمه في مذكراته «خارج المكان» إلا بوصفها نقيضاً أن أمكن القول، أو حارسة شرسة، أو راداراً استكشافياً يراقب حتى جسده.

أم سعيد لم تكن فلاحية بمعنى فكرة الحليب التي بنيت عليها هذه المادة؛ بل هو يكاد يصفها بالمتسلطة وإن لم يقل ذلك أبداً... يقول سعيد عن أمه.. «.. لم أدرك إلا في فترة متأخرة مدى شعورها بالنقصان والغضب تجاه حياتنا في القاهرة؛ إذ أستعيد تقليديتها المحمومة وصرامتها القسرية وغياب الصراحة» عندها وعند أولادها «.. ومناوراتها اللامتناهية وانعدام الأصالة المتأصل فيها، ويعود معظم ذلك إلى الجهل إلى طاقة أمي الأسطورية على جعلك تثق بها وتؤمن بها، مع علمك أنها إمّا أن ترتد عليك، بين لحظة وأخرى، بحنق وتقريع لا مثيل لهما، وإما أن تستدرجك استدراجاً إلى دائرة سحرها المتألق».. ويقول في مكان آخر: «فهي تنم عن نزعة تملّك شيطانية، وتنم في الوقت ذاته عن منتهى الطواعية السمحة التي تتقبّلك لا بوصفك ابناً بل بوصفك أميراً من الأمراء».

روح عميقة

هذه اللغة، لغة سعيد، في قراءته لشخصية ونفسية أمّه، لا يمكن مطلقاً أن نجدها عند شاعر قروي من بلدة طولكرم في فلسطين د. وليد سيف:.. وفي كتابه «الشاهد والمشهود» يقول د. سيف عن أمّه: «.. لم تكن المقاومة من طبعها، وكانت أصغر سناً وأقل تعليماً من أن تجادل عن نفسها وعن حقوقها، وكان الصمت سلاحها الأقوى، وربما الوحيد، فإذا غاضبها أحد تشاغلت عنه بالعمل على ماكينة الخياطة، وأخذت في الغناء لنفسها، وأصمّت سمعها عمّا تكره..».. وفي مكان آخر يقول.. «.. كان لأمي منا أضعاف ما لأبي.. نباسطها، ونصارحها، ونسرّ إليها، ونقبلها، - وتقبّلنا، ونمازحها، ونضمّها، وقد نبكيها ثم نجتهد في أن نرضيها..».. وأحسب هنا، أن المختلف بين رواية إدوارد سعيد، ورواية وليد سيف حول الروح العميقة لأم كل منهما هو الحليب بمعناه ودلالاته التي أشرت إليها في بداية هذا المادة، بلا مجازات ولا كنايات، فالأمومة شمس لا يغطّيها غربال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2e4aud85

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"