عادي

صاحبة البهاء

23:40 مساء
قراءة 5 دقائق
4

الشارقة: محمد إسماعيل زاهر

كانت الأم وحدها، ولا أحد أو شيء معها.

نظرتك الأولى في الحياة، أي كانت ما تحمله من مشاعر في تلك اللحظة: خوف..استغراب..دهشة..هلع، لم تكن إلا إلى أمك، نظرتك الأولى كانت لا تتطلع أو تتفرس في الكون أو الوجود أو الآخرين، ولكنها كانت تتلمس وجه أمك.. تتجول في خرائطه.. تمشي بتؤدة من يمتلك الزمن بأكمله في غضونه ومنحنياته.. تستكشف أحاسيسه الكامنة..هو وجه برحابة العالم ستظل طوال حياتك تحن إليه.. هو وجه يتلقاك بالمحبة والترحاب والفرح.. وجه تسكن في جنباته الطمأنينة والمسرة.

وجه الأم لا يتكرر في وجه آخر، وجه بهي ربما لا يكون جميلاً أو جذاباً، ولكنه ليس قبيحاً، فالأم لا تعرف القبح. وجه بهي، ربما تدرك بعد ذلك، وجه الأم هو وجه البهاء في أنصع صوره ولذلك هو الوجه الوحيد الذي يسكنك.

في بدايتك التي لا تعرف عنها أي شيء لن تنظر إلا إلى هذا الوجه، هو يغذيك بعد ذلك بالرؤيا والرؤى، هو يمنحك الأحلام، ولن ترسل عينيك إلا وراء هذا الوجه..أنت لا تعرف أي شيء إلا هو، ربما تحملك وجوه أخرى أو تداعبك أياد كثيرة أو تحاول عيون لا حصر لها سرقة عينيك، ولكنهما هاتين الصغيرتين إطلالتك على الخارج لا يعنيهما من كل هذا إلا بهاء وجه الأم، وعندما تتعلم يدك أن تتحرك لن تؤشر بإصبعك الصغير إلا إلى وجهها، وعندما تتعلم كيف تتمطى بجسدك وهي تحملك على ذراعيها لن تسعى إلا إلى وجهها، وقليلاً قليلاً ستنفصل عن الوجه عندما تعرف الحبو، ولكنك ستدور على أربع حولها ورأسك شبه مرفوع ونظراتك مصوبة ناحيتها.. ستعرف البكاء إذا غابت عنك، ولن تضحك لوجوه الآخرين.. تلك الأقنعة المحيطة بك إلا عندما تحملك بين ذراعيها، ساعتها فقط ستضحك، فذراعاها حماية وأمان، أنت تدرك في تلك السن الغامضة أن تلك الضحكات ليست من القلب تماماً، ووحدهما ذراعا أمك يجعلانك في خبيئة آمنة لا علاقة لها بتعقيدات هذا العالم.

تمرد البكاء

في سنواتك الأولى، الأم هي حواسك، ولا مسافة تفصلك عنها، ستؤرقك بعد ذلك كل المسافات...مسافة مع البشر والحياة وحتى مع أبنائك وزوجتك، وحدها الأم تمحو المسافة، أنت تأكل منها مباشرة، وإذا وضعتك بعيداً عنها فأنت تلغي هذه المسافة بتتبع رائحتها والإنصات إلى صوتها في الجوار، صوتها الذي تعرفه جيداً، وإذا طال ابتعادها تعلن عن تمردك بالبكاء. في سنواتك الأولى أنت لا تعقل سواها، لا تعي في العالم سواها.

في سنواتك الأولى، لا وجود إلا للأم، ووحدها هي من تعنيك، ووحدها هي حدودك وجهاتك وحواف الحيز الذي تعيش فيه، ووحدها هي امتلاؤك، ومن دونها أنت في خواء مستمر، ووحده بقاؤها بجوارك هو ما يمنح محيطك المعنى والأمان، فغيابها يصيب القلب بالاضطراب ومن ثم البكاء، وفي غيابها يخلو العالم ويتحول إلى هباء أو خراب أو يباب، ويصبح البكاء في حالة ديمومة، لا خلاص منه إلا بغيابك أنت أيضا، فتنام، وعندما تفتح عينيك ولا تجدها يتحول البكاء إلى صراخ.

في طفولتك الأولى، ستظل ملتصقاً بأمك، هي مركزك أو مركز العالم لا فارق فأنت في هذه اللحظة العالم، تخرج للعب مع إخوتك أو أطفال الجيران، ولا تلبث أن تعود إليها، تأخذك معها في زيارة الآخرين، وأنت تتوارى وراءها خجلاً وخوفاً، فأنت لم تخبر الآخرين بعد، تسير بجوارها في الشارع ويدك ممسكة بيدها، أنت لا تزال في حالة اتصال، لم تعرف الانفصال، لا تزال هي امتدادك، هي بقاؤك، هي زمنك الممتد.

مقام

قريباً من الأم، محمولاً بين ذراعيها، نائماً في حجرها، متوارياً خلفها ممسكاً بملابسها، قابضاً على يدها وأنت تسير بجوارها، في كل تلك الأحوال..أنت في مقام يتوقف فيه الزمن، في ذلك المقام أنت تملك اللحظة وتلعب بها، أنت صاحبها الحقيقي، لم يسرق أحدهم بعد عمرك، ولم تتعلم بعد أن تخصص وقتك لهدف ما، وأنت لا تتطلع إلى المقبل، رغباتك متمحورة حول وجود الأم، ولا رغبات غيرها، لم تعرف معنى أن تستذكر دروسك وتنتظر امتحانات آخر العام، لم تعرف رأي البنت التي أحببتها عندما قابلتها للمرة الأولى في مراهقتك بعد ذلك، لا تحلم بمنصب أو مركز أو ثروة، ولا فكرة تقضي عمرك في الانهمام بها.. لا مشاكل تعترض طريقك وتفكر في حلها...وأنت داخل خريطة الأم وعلى حدودها لا انتظارات لديك، فكل ما تنتظره بجوارك وفي متناول يدك، ولذلك أنت في هذه اللحظة تملك الزمن بالمعنى الحقيقي، تقبض عليه بين أصابعك، تروضه وتأمره، أنت سيد الوقت..كل الوقت، وأمير الزمن، وإمارتك هي البطء.

في البطء تتعلم من أمك كل شيء، تمسك بيدك، حتى تستطيع أن تخط بالقلم، وخطك سيصاحبك وسيكون بمثابة بصمة يتعرف الآخرون بها إليك، تعلمك الأم كلماتك الأولى..كلمات ستقذفها في وجه العالم لاحقا، وستكتسب رطانتك أوتلعثمك..أفقك المحدود أو فضاءك الرحب من تلك الكلمات، مع تلك الكلمات أيضا ستعرف الصدق من الكذب وستميز الزائف من الأصيل، المخادع من المستقيم، ستعلمك الأم أيضا خطواتك الأولى وكيف تمشي..مستقيما أو معوجا، نزيها أم تمتلك القدرة على المراوغة والمخاتلة. ستهبك مشاعرك التي ستنمو بعد ذلك، مركزيتك وأنانيتك أو قدرتك على العطاء، جبنك أو شجاعتك، إقبالك أو إدبارك، مواجهتك وتحملك المسؤولية أو هروبك من الحياة. ستلقي على أمك أسئلتك البسيطة والساذجة والحقيقية..أسئلة ربما ستخاف أن تطرحها على أحدهم عندما تنضج، ولكن وحدها الأم هي من تمنحك راحة لن تعرفها أبدا حتى ولو لم تمتلك أية إجابة عن أسئلتك.

لا تكتمل الطفولة إلا بالتطفل، وكل طفولة تخلو من محاولة اكتشاف غرابة العالم، طفولة منقوصة، طفولة يتيمة وغالبا ما تخلو من أم، وجميع الآخرين يشعرون بالضجر أو القرف أو الضيق أو الغضب إزاء تطفل الصغير إلا الأم، بالعكس هي تشرع له بوابات الخيال على اتساعها، تعيد تمثل العالم في مخيلته، بكلامها وحكاياتها.

ممالك لا حصر لها

مع الأم ينفلت الخيال من عقاله..يكبر المتناهي في الصغر، والعكس صحيح، ويصبح كل شيء رهن الاحتمال وقيد التحقق وعلى طرف البصر وتختلف الأبعاد وينفك عقد القوانين العلمية والاجتماعية المعروفة: يتزوج الفقير الأميرة، وتتحول العفاريت إلى كائنات تلاعبك ولا خوف منها، ويركض الصغير مع عقلة الإصبع، وتتكلم الحيوانات، تحدثك الأم عن المجهول، ولكنه لا يتسم بالرهبة ولا يثير فزعك أو خوفك، وسيصبح هذا المجهول أهم من كل ما ستعرفه وتلمسه بيديك لاحقاً، تؤسس الأم في وعيك ممالك لا حصر لها ولا تتسع لها الأرض..ومعها يكتسب الوجود ديمومة أبدية، ولا معرفة بالموت..حضن الأم يحميك منه، ولا معنى للفناء.. وأنت في حضن أمك صغيراً فأنت في بقاء ممتد.

كل حنين يخلو من ذكرى أم، هو حنين كاذب، الأمكنة الأولى، أزمنة البراءة والحلم والفطرة، الأفكار المجنونة، ذاتك قبل أن تتلون أو تتلوث، كل هذا لا يعول عليه من دون أم، في غيابها فإن مشاعرك الاستعادية تلك مجرد ذكرى عابرة، أنت من دون أم خفيف علاقتك بكل ماضيك عابرة..تعاقدية وليست عضوية..أنت من دون أم فرع لا أصل، غصن قابل بسهولة للكسر نتيجة لأية ريح عابرة لا جذر يحن إلى مائه..إلى أمه.

تخلو الأمومة من السلطة، ولذلك فأنت في حضرتها على حريتك تماماً، حرية الحقيقية الداخلية، ولأنك حر تماماً فأنت لا تخجل أمام أمك، هي الكائن الوحيد الذي بإمكانك أن تبوح له بانكساراتك وهزائمك، وما فشلت في تحقيقه، الأم صلابة لا تنثني وليست قابلة للكسر، تلتمس في قوتها بعض الحماية وكثيراً من العزاء والراحة. الأم شوق وأسى في الوقت نفسه.

توقع

مشاعر الأم برسم المطلق، لا هدف من وراء حبك وحمايتك، لا تتوقع منك شيئاً، ولا تنتظر أي مردود، وحبها لا يمكن فلسفته أو معرفة أسبابه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yd68nm62

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"