بيلاروسيا في معادلة الصراع الدولي

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

أضحت بيلاروسيا تشكل أهمية استراتيجية متصاعدة في الصراع بين «الناتو» وروسيا في أوكرانيا، إذ إن الموقع الجغرافي المتميّز لهذا البلد الصغير نسبياً، مقارنة بالجارين الأوكراني والروسي، يجعله يلعب دوراً محورياً في معادلة الصراع الدولي الراهن بين القوى الكبرى من أجل رسم معالم مستقبل النظام الدولي الجديد. ويرى المراقبون أن أهمية بيلاروسيا بالنسبة إلى مجريات الصراع الحالي لا تكمن فقط في أنها تملك حدوداً مشتركة مع دول الحلف الأطلسي مثل بولونيا، ولكن أيضاً لكونها البلد الأوروبي الوحيد الذي كان ينتمي إلى الكتلة السوفييتية، والذي لم يتمكن الغرب من إخراجه من مخالب النفوذ الروسي من خلال ثورة برتقالية، أسوة بما حدث في جورجيا وأوكرانيا خلال السنوات الماضية، فقد بقيت بيلاروسيا وفية لتحالفها مع موسكو على الرغم من كل الإغراءات الأمريكية والأوروبية.

 وعليه، فقد قامت الدول الغربية بفرض عقوبات على نظام الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، الذي اتهمته بالقمع والديكتاتورية، بخاصة بداية من سنة 2011 ، لكنها وبعد إقدام موسكو على ضم شبه جزيرة القرم واندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، خففت هذه الدول من عقوباتها نظراً لحاجتها إلى الدور الذي كانت تلعبه بيلاروسيا في إدارة المفاوضات بين موسكو وكييف، وهو الدور الذي قاد لاحقاً إلى إبرام اتفاقية مينسك برعاية ألمانية - فرنسية؛ وهي اتفاقية اعترفت لاحقاً المستشارة الألمانية بأنها كانت تهدف بشكل أساسي إلى ربح الوقت لتمكين أوكرانيا من الاستعداد للحرب التي تدور رحاها الآن.

 وقد حاولت الدول الغربية في السياق نفسه، أن تستثمر الاحتجاجات التي اندلعت بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت في 9 أغسطس/ آب 2020 والتي فاز بها الرئيس لوكاشينكو بولاية سادسة بنسبة 80 في المئة من الأصوات، حيث رأى المعسكر الغربي في احتجاجات مينسك، التي تفجرت مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات، فرصة من ذهب من أجل تغيير النظام، والإمعان في تطويق روسيا من كل الجهات، لذلك فقد أقدم على فرض عقوبات قاسية على الحكومة البيلاروسية بداية من 19 أغسطس، آب، من السنة نفسها؛ كما اتهمت دول الاتحاد الأوروبي بعد ذلك نظام لوكاشينكو بالمسؤولية في تدفق أعداد هائلة من المهاجرين انطلاقاً من أراضي بيلاروسيا نحو بولونيا ودول البلطيق، من خلال تخصيص مينسك للعديد من الرحلات الجوية لمصلحة المهاجرين باتجاه الحدود مع دول الاتحاد الأوروبي.

  ونستطيع أن نقول إن أبرز خطوة أغضبت الدول الغربية من بيلاروسيا تمثلت في التعديل الدستوري الذي قامت به منسك، والذي تمثلت أبرز بنوده في التخلي عن خيار الحياد الذي كانت تلتزم به بيلاروسيا في سياق تعاملها مع فضائها الجيوسياسي ليكون بديلاً لأبرز القواعد الدستورية التي جرى اعتمادها في دستور سنة 1994 والذي جاء مباشرة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وحصول بيلاروسيا على استقلالها؛ وجرى الاستفتاء على مشروع هذا الدستور الجديد في 27 فبراير/ شباط من سنة 2022 أي بعد أيام قليلة من قيام جزء من القوات الروسية بالزحف نحو العاصمة الأكرانية كييف، انطلاقاً من الأراضي البلاروسية، الأمر الذي دفع الغرب إلى اتهام النظام البيلاروسي بالارتماء الكامل في أحضان موسكو.

 ومن الواضح الآن أن خيارات الغرب بشأن تغيير الأوضاع في بيلاروسيا تظلّ محدودة جداً، نظراً للارتباط الوثيق الذي يجمع الأغلبية الساحقة من الشعب البيلاروسي بروسيا، ولا يمكن الاعتماد في كل الأحوال على الأقلية الأوكرانية في هذا البلد التي لا يتجاوز عددها 13 في المئة، ولا على الأقلية البولونية التي يصل تعدادها إلى نحو 3 في المئة من مجموع السكان، من أجل تغيير الأوضاع، لأن أغلبية المواطنين الذين يتجاوز عددهم 9 ملايين نسمة، هم من البيلاروسيين والروس. وبالتالي، فإن سقوط ورقة المعارضة البيلاروسية من يد المعسكر الغربي يجعل كلا الطرفين، الروسي والغربي، يراهنون بشكل أكثر من أي وقت مضى على حسم المعركة في أوكرانيا، فإما أن ينتصر الغرب ويصبح على بعد مسافة تقل عن 300 كلم من موسكو، وإما أن تحقق روسيا النصر وتُبعد «الناتو» عن أراضيها وتسهم في ميلاد توازن قوى جديد في العالم متحرّر من رقابة العيون الخمس.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n7zp6ew

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"