شريان الحياة.. سلعتنا الأكثر قيمة (1)

21:59 مساء
قراءة 7 دقائق

أحمد بن سليم *

المياه موجودة في كل مكان، وهي حيوية لجميع أشكال الحياة المعروفة، فهي ليست شريان الحياة لكوكبنا فحسب، بل إنها أيضاً عامل يسهل التجارة، وناقل للغذاء، وهي منذ زمن بعيد في تاريخ البشرية، جسم طبيعي بين الثقافات والحضارات. ومع ذلك، وعلى الرغم من وفرتها الطبيعية، لا يزال الوصول إلى مياه الشرب يمثل تحدياً متزايداً بسبب العوامل البيئية. وفي الوقت نفسه، أدى التوزيع غير المتكافئ للمياه العذبة كمورد متجدد إلى معاناة أكثر من مليارَي شخص في البلدان التي تواجه الإجهاد المائي، أو لديها مصادر ملوثة فقط.

وفي مدونة هذا الشهر المكونة من جزأين، وعقب استضافة دبي للمؤتمر العربي للمياه واستعداد دولة الإمارات لاستضافة مؤتمر الأطراف «COP28» في وقت لاحق من هذا العام، سأناقش تطور ودور المياه وبعض التحديات العالمية التي نواجهها.

وعلى المستوى الفطري، عرفت البشرية دائماً أن الماء مرتبط بالحياة وطول العمر والنظافة والنقاء. وقبل وقت طويل من اكتشاف الكائنات الحية الدقيقة والاختلاف بين المصادر، كان الماء يحظى بالاحترام في العديد من الثقافات التي تجسد هدوءه وسكينته؛ وتعتبره رمزاً للبعث والنقاء.علاوة على ذلك، فإن الماء له أهمية أعمق بكثير في الطبيعة وصحتنا الجسدية، حيث بدأ عدد متزايد من الأفراد والمنظمات بإجراء المزيد من الأبحاث حول الوعي الخفي للمياه والعلاقة العلمية بين وظيفة الدماغ والماء كناقل عصبي فعال للغاية.

وعلى المستوى البنيوي، الماء عبارة عن جزيء بسيط مكون من ذرّتي هيدروجين صغيرتين ذواتي شحنة موجبة، وذرة أكسجين أكبر سالبة الشحنة، والتي تولّد قطبية عند الارتباط. ونتيجة لذلك، يمكن لجزيئات الماء تكوين روابط قوية مع الجزيئات القطبية الأخرى، بما في ذلك جزيئاتها الخاصة، والتي توفر التماسك، ما يسمح لها بتفكيك المواد الأخرى، ما يمنحها لقب «مذيب عالمي». وعلى المستوى البيولوجي، تمكّن هذه الخاصية الماء من لعب دور حاسم في مساعدة الخلايا على نقل الأكسجين والمغذيات في جميع أنحاء الجسم، ومساعدة النباتات على امتصاصه من خلال جذورها، ومساعدة الخلايا في الحفاظ على شكلها من خلال التوزيع المتساوي للضغط.

وبالتالي، يوصي أخصائيو الرعاية الصحية عادة، بأن يشرب معظم الناس ما بين 8-12 كوباً من الماء يومياً، للمحافظة على رطوبة الجسم، وكمية أكبر من ذلك عند إضافة عوامل أخرى مثل ممارسة التمارين، والطقس الحار، والارتفاعات العالية، والنظام الغذائي الغني بالألياف، أو بعد تناول المنشطات مثل الكافيين. وفي حين أنه أمر أقل شيوعاً، فإن الإفراط في شرب الماء يمكن أن يكون له أيضاً تأثير سلبي، على الرغم من أن ذلك ينتج عادة من شرب أكثر من لتر واحد في الساعة، لعدة ساعات متتالية، ما قد يؤدي إلى فرط التميّه و/أوالتسمم المائي و/ أو التسمم بالماء.

ونظراً لأن الماء يشكل 60 - 75 في المئة من جسم الإنسان، فليس من المستغرب أن يتجاوز استهلاكه تجنب العطش، ويصل إلى قائمة طويلة من الفوائد الفسيولوجية التي كان الكثير منها واضحاً، بشكل عملي، منذ بزوغ فجر البشرية.

ووفقاً لما ذكره إم إن بيكر، ومايكل تاراس، في كتابهما «البحث عن المياه النقية: تاريخ تنقية المياه من السجلات المبكرة حتى القرن العشرين»، ربما بدأ البحث عن المياه النقية في عصر ما قبل التاريخ، مع أقدم توثيق لمعالجة المياه ورد في النص السنسكريتي القديم «ساسروتا سامهيتا»، الذي يعتبر أحد أهم السجلات الطبية التي بقيت من العالم القديم، وأحد النصوص التي نشأت على أساسها الأيورفيدا، حيث يذكر طرق التنقية، بما في ذلك الغليان، أو التسخين تحت أشعة الشمس، أو الترشيح عبر الرمال، فيما تعرض نقوش لاحقة عثر عليها على جدران مقابر الحكام المصريين، من بينهم أمينوفيس الثاني ورمسيس الثاني، صوراً لجهاز تنقية المياه.

وبحلول القرن الرابع قبل الميلاد، طوّر الطبيب اليوناني أبقراط «الجعبة» التي تحمل اسمه، وهي عبارة عن كيس من القماش يمكن من خلاله سكب الماء بعد غليه، ما يحبس الرواسب ويقلل من الطعم والرائحة غير المرغوب فيها. وفي السنوات اللاحقة، فهمت الحضارتانن اليونانية والرومانية، مشاكل التعكر والآثار الجانبية للكالسيوم والمغنيسيوم المذابين. وأدى ذلك إلى قيام الرومان بتطوير أحواض ترسيب ضخمة في أعلى قنواتهم المائية. وفي الوقت نفسه، استخدمت كل من السلالات اليونانية والمصرية الترشيح من خلال الجرار الفخارية المسامية، وهي تقنية أعاد جون دولتون إنشاءها باستخدام مرشحات السيراميك للوقاية من تفشي التيفوئيد والكوليرا في إنجلترا في العصر الفيكتوري.

وفي الواقع، ظل تطور تنقية المياه يراوح مكانه نسبياً لعدة مئات من السنين، لا سيما خلال العصور الوسطى، عندما أصبحت المشروبات المخمرة، مثل الميد والبيرة، بدائل شائعة للمياه الملوثة التي قد تكون مميتة. وظلت الأمور على هذا النحو حتى عام 1804 عندما أنشأت مدينة بيزلي في اسكتلندا أول مصنع محلي لتنقية المياه في العالم، باستخدام نظام من مرشحات الحصى والرمال متحدة المركز.

وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، وبفضل العمل الرائد الذي قام به لويس باستير، الذي يمكن القول إنه الأب الروحي لعلم المناعة الحديث، كان الفهم الأكبر للكائنات الحية الدقيقة وصِلتها بالمرض يعني اتباع نهج أكثر صرامة في معالجة المياه. وفي نهاية المطاف الاستخدام الواسع لمياه الشرب. كان هذا هو التأثير الذي حدث خلال الثلاثين عاماً الأولى من القرن العشرين، حيث قفز متوسط العمر المتوقع بين 10 - 15 عاماً في البلدان التي أصبح فيها الوصول إلى مياه الشرب متاحاً بشكل عام.

واليوم، بموجب تشريعات المجتمع الأوروبي، تمت إعادة تعريف مياه الشرب بشكل بيروقراطي لأغراض الصحة والسلامة، بينما تتطلب المياه المعدنية تدابير أكثر صرامة، بما في ذلك عدد الأملاح المعدنية المتبقية (بالملليغرام)، وتوازن الرقم الهيدروجيني، ودرجة الحرارة، والصلابة. ويتراوح مستوى الحالة المعدنية، مصنفة حسب البقايا الثابتة عند 180 درجة مئوية، أو عدد الأملاح المعدنية المتبقية بالملليغرام بعد تبخر لتر واحد من الماء، من منخفض إلى مرتفع مع معلمات إضافية، بما في ذلك درجة الحرارة عند المصدر، ووجود معادن الأرض القلوية.

وفي ما يتعلق بالخصائص الصحية، يفكر خبراء المياه عادة في كل من المغذيات الكبيرة والصغيرة، بدءاً من الكالسيوم، الذي يدعم نمو العظام، وتخثر الدم وتنظيم نفاذية الخلايا، وصولاً إلى الكوبالت، وهو أحد مكونات فيتامين بي 12.

وكمحصلة نهائية، ثبت أن المياه المعدنية تساهم في صحة القلب من خلال خفض مستويات الكوليسترول الضار (LDL) ورفع مستويات الكوليسترول الجيد (HDL) مع خفض ضغط الدم وتخفيف أعراض الإمساك. وبالتالي، استمر البحث لسنوات عدة، للعثور على المصدر النهائي «للمياه الأكثر صحة في العالم»، حيث تدعي العديد من المناطق أنها المصدر الأكثر صحة، بما في ذلك بويرتو ويليامز في منطقة باتاغونيا في تشيلي، وبلدتا تايني وتاي في أونتاريو بكندا. وبشكل عام، تشتهر سويسرا وآيسلندا والدول الاسكندنافية بتمتعها بأعلى جودة لمياه الصنبور، على الرغم من أن مقياس الجودة لهذا الغرض، على ما يبدو، غير موضوعي. وفي عالم صناعة الشاي الحرفي، يُنظر إلى الماء المقطر عادة على أنه الخيار الأفضل، بينما يفضل الماء المصفى بالكربون المنشط في صنع القهوة لأنه يساعد في إزالة الروائح والشوائب والكلس والكلور. وبشكل عام، يعزز الماء الذي يحتوي على تركيزات أعلى من المغنيسيوم النكهة، بينما يضيف الكالسيوم المرارة، حسب التفضيل.

وعلى ما يبدو، عند إضافة المعرفة الفطرية لأسلافنا مع قفزاتنا الواضحة في الخبرة العلمية والتقنية، من الصعب تخيل السبب في أن نقاوة المياه وندرتها أصبحت قضية مهيمنة. وبينما يتطلب الموضوع المزيد من التحقيق، فإن أهم الأسباب لذلك تكمن، على ما يبدون في إهمال، أو لا مبالاة الحكومات/ الشركات، والتوسع الزراعي، والملوثات الدقيقة.

وفي الجانب الأول، فإن حالات مثل تلك التي حدثت في فلينت بولاية ميشيغان، حيث تم تحويل إمدادات المياه للمجتمع من نظام ديترويت إلى نهر فلينت لخفض التكاليف، ليست منعزلة. وللأسف، تسبب العلاج والاختبار غير المناسبين في حدوث مشكلات صحية كبيرة للسكان، بما في ذلك الطفح الجلدي وتساقط الشعر وحكة الجلد. ما حدث هو أن نهر فلينت تم استخدامه كموقع غير رسمي للتخلص من النفايات المعالجة وغير المعالجة من العديد من الصناعات المحلية، بدءاً من مصانع السيارات وصولاً إلى مصانع تعبئة اللحوم، فضلاً عن مياه الصرف الصحي الخام من محطة معالجة النفايات في المدينة، والجريان السطحي الزراعي والحضري، والسموم الناتجة عن ترشيح مكبات النفايات.

ومن الحالات الأخرى لتلوث المياه الشديد تلوث ووبرن في ولاية ماساتشوستس، الذي ارتبط بسرطان الدم في مرحلة الطفولة، وسرطان الكبد والكلى والبروستاتا، وسرطان المسالك البولية، إضافة إلى التشوهات الخلقية في جميع أنحاء المجتمع المحلي. وفي المراكز السكانية الكبيرة الأخرى، مثل تلك القريبة من نهر يامونا شديد التلوث في الهند، تم أيضاً توثيق إصابات بالأمراض ووفيات مرتبطة بالسمية وانتشار الأمراض.

وفي ما يتعلق بالزراعة، فإنها أكبر مستهلك لموارد المياه العذبة، وهي مسؤولة عما يقرب من 70 في المئة من إجمالي الاستهلاك، وفي الوقت نفسه تعتبر ملوثاً ضخماً، حيث ينظر إلى هذا القطاع باعتباره السبب الرئيسي لتدهور نوعية المياه، فضلاً عن كونه مساهماً مهماً في تلوث مصبات الأنهار والمياه الجوفية بسبب الأسمدة والمبيدات والمخلفات الحيوانية. وتشمل الصناعات الأخرى ذات الاستهلاك الجماعي الكبير، على الرغم من كونها أحدث، ظهور مراكز البيانات، حيث يشير تقرير حديث إلى أن مركز بيانات غوغل يستهلك مليارات الغالونات سنوياً.

يمكن القول إن المشكلة الأكثر صعوبة تأتي في شكل ملوثات دقيقة، والتي تشمل الهرمونات ومضادات الغدد الصماء، خاصة الأستروجين، من الاستخدام الواسع لحبوب منع الحمل الأنثوية، وبيسفينول A (BPA)، وهي مادة كيميائية تستخدم في إنتاج البلاستيك الذي يحاكي تأثيرات الأستروجين. وللأسف، ثبت أن هذه الملوثات الدقيقة تتسبب في اضطراب شديد في مستويات الهرمونات، ما يؤدي إلى زيادة مخاطر عدم تحمّل الطعام والعقم والإعاقات الخلقية والسمنة وأمراض القلب والأوعية الدموية.

والنبأ السار، هو أن هناك ما يكفي من الماء للجميع، ولكن الخبر السيئ هو أن نهجنا الحالي تجاه الاستخدام والمعالجة والتوزيع يحتاج إلى التغيير، ولهذا السبب فإنني أدعو إلى تعزيز المعرفة والوعي، بدءاً من الجزء الثاني، حيث سأتحدث عن تحسين استهلاك المياه، وتحديد المصادر، والابتكارات التي يتم إجراؤها، وكيف يمكن للشركات والحكومات اتباع نهج أكثر مسؤولية تجاه التعامل مع أكثر مواردنا قيمة.

* الرئيس التنفيذي الأول والمدير التنفيذي لمركز دبي للسلع المتعددة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr2kjpa6

عن الكاتب

الرئيس التنفيذي الأول والمدير التنفيذي لمركز دبي للسلع المتعددة

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"