الثقافة في مهب العولمة

00:54 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في عام 2004 قال المفكر الأمريكي اليساري مايكل دينينغ، في كتابه «الثقافة في عصر العوالم الثلاثة»، إن «مصطلح الثقافة أصبح المفهوم المركزي في الدراسات الإنسانية خلال العقود السابقة». لقد لخصت مقولة دينينغ الوضع الثقافي خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. لقد استبدل العالم الثقافة بالإيديولوجيا، وبات الصراع العالمي كما صورته الليبرالية الجديدة يرتكز على الثقافة، ولم يعد هناك أثر من صراع طبقي، أو سياسي، في الكثير من التحليلات، ما أثار الكثير من اليساريين الذين انهمكوا بصفة خاصة في تحليل تجليات العولمة بظلالها المتعددة.

 لقد تعاملت العولمة مع الثقافة من منطلقات عدة، ومن السذاجة والتبسيط المُخل أن نقول بعد مرور سنوات طويلة من موجة العولمة الأخيرة، أنها تروج ل«الهمبرغر والكوكاكولا» فقط، فالظروف أكدت أن تعامل الثقافة مع العولمة كان أكثر عمقاً من ذلك، وعلى مستويات عدة، في «نهاية التاريخ» لفوكوياما و«صدام الحضارات» لهنتنغتون تأتي الثقافة في مقدمة عوامل الصراع بين البشر، ولم يعد هناك أهمية لعوامل اقتصادية وإيديولوجية أخذها المحللون في الاعتبار لقرون طويلة. وفي أعمال أخرى كان هناك مفهوم «الآخر» الذي رسّخته العولمة طويلاً، وردّده الكثيرون حتى بات مصطلحاً أساسياً في الكثير من الأدبيات الفكرية والسياسية.و كان الهدف أن تعود كل ثقافة إلى أصولها المحلية، وتهتم بجذورها الذاتية وحسب. ومن هنا نفهم أيضاً رواج مصطلح «التنوع الثقافي» الذي انتشر بدوره، ويؤشر في ظاهره إلى احترام ثقافات الآخرين، ولكن في عمقه يؤكد أن هناك رغبة في انكفاء كل ثقافة على نفسها. وفي النهاية اكتملت الصورة فلم تعد هناك ثقافة عالمية يتحصن من خلالها البشر خلف فكرة كبرى من أجل مواجهة تيار العولمة الكاسح.

 المرحلة الأهم والأعمق في تعامل العولمة مع الثقافة جاءت مع التكنولوجيا فائقة الحداثة، حيث لا بدّ من تسطيح كل ثقافة من داخلها، وحرمانها من عناصر الجدّة التي تمكّنها من نقد آليات العولمة، وعلى رأس تلك العناصر ضرورة تراجع دور النخب التقليدية، وصاحَبت ذلك سلسلة إعلانات كابوسية، مثل إعلان موت الناقد، وموت المفكر، وموت المثقف.. إلخ.

  وعلى المستوى الشعبي، روّجت العولمة لنمط حياة جديدة، لا يقتصر على المأكل والملبس وحسب، ولكنه نمط يعتمد في الأساس على صناعة صورة تفيض بالبهجة والسعادة لا بدّ أن نعيشها، نمط يؤثر في طرائق التفكير والوعي وأساليب السلوك، وأدى إلى الولع بالظهور في الفضاء العام الذي ينتاب البشر كلهم الآن، بغض النظر عن معنى وقيمة هذا الظهور، فضلاً عن آليات متشابهة لتقسيم العمل، وترويج أنماط استهلاك واحدة في كل مكان من العالم.

  لقد اشتغلت العولمة على مختلف مفاصل الثقافة، وخلقت كائنات فردية هشة، وأنانية في الوقت نفسه، ولا هدف لها إلا الاستمتاع، وبعد أن نجحت في ذلك إلى حد كبير، بشرت تلك الكائنات بالإنسان «السايبورغ»، و«الروبوت»، والذكاء الاصطناعي، ما يعني أن المنظومة الروحية للإنسان التي كانت تقف على قدمي «الثقافة» و«الفكر» باتت من الماضي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc2m99f8

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"