عادي
زاد القلوب

«الصدق»... طوق نجاة الإنسان

14:58 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود
«عليك بالصدق في الأقوال والأفعال، خَلوْة وجَلوْة، سراً وعلانية مع الله ومع خلقه، فإنك إذا مُتَ على الصدق، كتبك الله عنده صادقاً، اترك الكذب مع الله ومع خلقه، فإنك إذا دمت على الكذب، كتبك الله عز وجل عنده كاذباً».

عبد القادر الجيلاني هكذا تحدث عبد القادر الجيلاني «470 هـ -561 هـ»، وهو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، الذي يُعرف ويلقب في التراث المغاربي بالشيخ بوعلام الجيلاني، وبالمشرق عبد القادر الجيلاني، ويعرف أيضاً بـ«سلطان الأولياء»، وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي، لقبه أتباعه بـ«باز الله الأشهب»، و«سلطان العلماء» و«تاج العارفين» و«محيي الدين» و«قطب بغداد»، وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية، نشأ الجيلاني في أسرة شهد لها بالصلاح، فقد كان والده يلقب بـ«محب الجهاد»؛ إذ اشتهر بالزهد، وعُرف عنه عمله الدؤوب على مجاهدة النفس وتزكيتها بالأعمال الجليلة، وكذا الحال بالنسبة لوالدته، فقد اشتهرت كذلك بعمل الخير حتى أنها لقبت بين الناس بـ«سيدة النساء»، فهي ابنة شيخ جليل وهو عبد الله الصومعي؛ لذلك كان لتلك المرأة العابدة الفضل الكبير على ابنها عبد القادر؛ إذ ربته على قيم ومكارم الدين الإسلامي، والأخلاق النبيلة، فقد كرّست جهدها في تعليم ابنها فضيلة الصدق، وأن يصر على ألا يكذب مهما كانت الظروف؛ حيث إن الصدق هو ما ينجي الإنسان من المهالك، وهو الذي يقربه إلى رب العالمين، فكان أن تأثر الجيلاني بأمه تأثراً شديداً، وبقيت كلماتها حية في قلبه وعقله تنير له الطريق، وتزيح عنه الهموم، ووحشة النفس، فكان أن نشأ الجيلاني على حب الصدق والزهد حتى صار علماً من أعلام التصوف والدعاة.

*موعظة رفيعة وفي هذه الموعظة الرفيعة، فإن الجيلاني يدعو المسلمين إلى ضرورة أن يصدق المرء في كل وقت وحال، عند قوله وصمته وفعله، وعند اجتماعه وفي عزلته، وفي سره كما في جهره، ومن المهم أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه ومع ربه، فإذا جاءت منيته وهو على تلك الحالة من الصدقية العالية، فإن الله يكتبه مع الصادقين؛ وذلك مقام رفيع لا يصل إليه المؤمن إلا بأن يوطن نفسه على العمل الشاق، والجيلاني يدعو كذلك المسلم إلى ترك الكذب، لأن الندامة كل الندامة أن يلقى الله، تعالى، وهو من الكاذبين، فيكتب عند رب العالمين كذاباً؛ وذلك هو الخسران العظيم عندما لا ينفع شيء، ولا يبقى غير الندم حين لا تفيد الندامة.

ووجدت هذه المقولة الشفيفة والقيّمة في معانيها، صدى كبيراً في قلوب الناس، فعمل الكثير منهم على تمثل قيمها، بعد أن تسللت إلى نفوسهم لتمتلئ بالإشراق، ولعل الملاحظة الجديرة بالذكر، أن الموعظة جاءت بطريقة رقيقة بلا غلظة، فقد أراد من خلالها الجيلاني خير الناس أجمعين ونجاتهم في الدنيا والآخرة؛ لذلك عمل على أن تلامس الكلمة القلوب حتى إذا ما استقرت فيها، تدبرها المسلم ووعى مقاصدها، ليعمل بها، لتصبح زاداً له في الطريق إلى الله، تعالى، والمؤمن يبدأ في تمثل الصدق عندما يصبح صادقاً مع نفسه أولاً، فتلك هي البداية التي ترشده إلى التعامل مع الآخر بأخلاق تتركز على هذه الفضيلة، فهي بمنزلة عمل صالح يتقرب به من المولى؛ حيث إن الصدق هو من أخلاق الإسلام، الذي حض عليه وأكد أهميته، ثم إن البشرية في مسارها الطويل وتطورها الحضاري، اكتشفت قيمة الصدق وضرورته؛ إذ صارت الشفافية هي واحدة من المبادئ المهمة في جميع التعاملات اليومية في حياة البشر، وعلى مستوى السلطة، والمعاملات المالية، في العصر الحديث؛ حيث صار الناس في مختلف أنحاء العالم، وبعقائدهم الدينية المتباينة، يكتشفون أهمية أن يكون الفرد صادقاً، وكذلك الجماعات والمؤسسات، فذلك بعد روحي يضيف الكثير للحياة والتعامل بين الناس على مختلف أعراقهم وثقافاتهم.

*أهمية وربما ما كان لمقولة الجيلاني تلك، أن تكتسب أية أهمية لولا أنها قيلت بصدق، وعبرت عن تجربة روحية بديعة، فقد صدقت مقولاته الكثيرة حتى التقطها الشعراء فصاغوها شعراً، وتلقفها المغنون فرددوا من الألحان شجياً لا يشبهه في صفائه إلا حديث هذا العالم الأجل، الذي كان يتقرب إلى الله، تعالى، بتلك المواعظ اللينة، والأقوال الساطعة، وكذلك بالشعر الذي يحلق في عالم روحي بديع بدفقات شعورية تحيي القلوب، وسواطع نورانية تقرب إلى المحبوب، وتاج مرصع بجواهر ونفائس البديع وحلاوة المجاز وإشراقات البلاغة، فقد كان الجيلاني من الزهاد الصادقين الذين اختاروا الهجرة إلى الله، سبحانه وتعالى، حباً ووجداً، فوجدوا الأنوار الساطعات، والمعارف التامات، فزهدوا عما في الدنيا من متاع يرجون ما عند ربهم.

اتبع الجيلاني منهج الصدق، فكان عند الناس صدوقاً، وله في ذلك قصص وحكايات تناقلتها أجيال من بعد أجيال، خاصة تلك التي يرويها هو فيقول: «سرت مع قافلة صغيرة بطلب بغداد، فلما تجاوزنا همدان، وكنا بأرض فلاة، خرج علينا ستون فارساً فأخذوا القافلة، ولم يتعرض لي أحد فاجتاز بي أحدهم وقال يا فقير ما معك؟ فقلت: أربعون ديناراً، فقال: وأين هي؟ فقلت: مخاطة في دلقي تحت إبطي، فظن أني استهزئ به فتركني وانصرف ومر بي آخر فقال مثل ما قال الأول وأجبته كجواب الأول فتركني، وتوافيا عند مقدمهم وأخبراه بما سمعاه مني فقال عليَّ به، فأتي بي إليه وإذا هم على تل يقتسمون أموال القافلة فقال لي ما معك؟ فقلت: 40 ديناراً قال أين هي؟ قلت: مخاطة في دلقي تحت إبطي فأمر بدلقي ففتق فوجد فيه أربعين ديناراً فقال ما حملك على هذا الاعتراف؟ قلت: إن أمي عاهدتني على الصدق وأنا لا أخون عهدها، فبكى وقال أنت لم تخن عهد أمك وإني إلى يوم كذا وكذا سنة أخون عهد ربي، فتاب على يدي، فقال له أصحابه أنت مقدمنا في قطع الطريق وأنت الآن مقدمنا في التوبة فتابوا كلهم على يدي وردوا على القافلة ما أخذوه منهم، فهم أول من تاب على يدي».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3p8trcsj

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"