عادي

عائشة.. وصبر سيدنا أيوب

23:44 مساء
قراءة 4 دقائق

في شتاء صباح يوم بارد، وفى شوارع المدينة الصغيرة والأطفال يركضون لدخول مدارسهم، ظهرت عائشة، البنت النحيفة شاحبة الوجه الضعيفة التي تبلغ 9 سنوات ترتدي ثياباً قديمة وحذاءً مفتوحاً من الجهتين. تتجول عائشة في أرجاء المدينة تحمل صينية بها كعك وفطائر صنعته أمها وأعطتها إياه لتبيعه للأطفال والكبار ثم تعود لأمها وإخوتها الصغار بثمنه، ليستطيعوا العيش بأقل القليل، فقد مات أبوها، وأمها مريضة غير قادرة على الحركة.

تحملت عائشة المسؤولية الكبيرة والبعيدة عن طفولتها، فهي لا تذهب إلى المدرسة، ولا تلعب مع الأطفال، ولا ترتدي الفساتين الجميلة، ولا تأكل ما تشتهيه نفسها. وبينما هي تسير وتنادى «الكعك والفطير الساخن»، وسط البرد القارس، هطلت الأمطار الشديدة، فلجأت إلى شجرة بجانب مدرسة للبنات، فلفت انتباهها المعلمة داخل أحد فصول البنات وهي تشرح لهن وتكتب على السبورة.. سرحت عائشة بخيالها وتمنت أن تكون معهن، ثم قالت لنفسها: هذا هو المستحيل.

شعرت الفتاة الصغيرة باليأس والبرد يسري في جسدها الصغير وترتعش، فبكت بشدة على حالها، فهي غير قادرة حتى على شراء معطف يحميها، غير أنها لم تعد قادرة على تحقيق أمنياتها أو حتى الاستمرار في العمل للإنفاق على أسرتها الصغيرة.

وسط بكائها الكثير ودموعها البريئة سمعت المعلمة وهي ترد على الفتيات بعد أن سألنها بإلحاح عن الرحلة المدرسة الترفيهية، قائلة: الصبر يا أحبابي، الصبر، فإنه مفتاح الفرج، فسألوها عن معنى هذا الكلام فقالت: سأحكى لكم قصة جميلة عن الصبر، وهى قصة سيدنا أيوب، عليه السلام، وكيف أنه صبر على البلاء حتى فرج الله عليه.

قالت: تزوج سيدنا أيوب، عليه السلام، من امرأة صالحة، عاشت معه فترة طويلة من الزمن في رخاء ونعيم وسعادة، فقد كان رجلاً كثير المال والأولاد، أراد الله، سبحانه وتعالى، أن يختبر أيوب ومن معه، فجفت الأرض ومات الزرع، ثم بدأت المواشي والأغنام تنفق أمام عينيه، وذهب كل ماله إلا القليل، وبدأ أولاده يموتون جميعاً. ثم مرض أيوب، عليه السلام، مرضاً شديداً حتى إنه قيل في وصف مرضه: لم يبق عضو سليم من جسده إلا قلبه ولسانه، وهو صابر محتسب، يذكر الله، سبحانه وتعالى، في نهاره وليله، وطال المرض بهذا النبي الصابر الشاكر، حتى إنه عاش ثماني عشرة سنة في مرضه، نعم، ألم تسمعوا جملة «يا صبر أيوب» من قبل، فهذا هو نبي الله أيوب الذي أصبح مضرباً عظيماً للمثل في الصبر حتى اليوم.

بدأ الناس ينصرفون من حوله، وانقطعوا عن زيارته، ولم يبق أحد حوله، وخافوا من العدوى، فأخرجوه من المدينة، ولم يبق معه إلا زوجته الوفية التي كانت تقوم على خدمته وهي صابرة راضية بمرض زوجها وفقره، فعملت خادمة، حتى تحصل على طعام لهما، وعندما أُغلقت الأبواب في وجهها وضاق الحال، لم تجد عملاً تتكسب منه وتطعم زوجها، فقصت ضفائر شعرها وباعتها لامرأة غنية واشترت بثمنها الطعام. رفض أيوب عليه السلام، أن يأكل حتى يعلم من أين جاءت بالمال والطعام، فكشفت عن رأسها، فبكی وقال شاكياً إلى ربه: رب إني مسني الضر ولحقني الهم والتعب وأنت يا رب أرحم الراحمين، تجيب المضطر، وتكشف السوء، وتمن بالعافية.

يقول الله تعالى: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ» الأنبياء:83-84.

لما شكا أيوب عليه السلام البلاء إلى ربه، أوحى له أن يضرب الأرض برجله، فاستجاب لأمر ربه فخرج من الأرض ينبوع ماء فاغتسل منه عليه السلام، فذهبت عنه كل الأمراض، وشرب فعاد سلیماً صحيحاً، ورجع إلى أيوب ماله كله، بل أكثر، وعاد إليه شبابه وصحته، ورزقه الله أولاداً كثيرين، حتى قيل إن زوجته أنجبت له ستة وعشرين ذكراً، وعاش بعد ذلك سبعين سنة.

رفعت عائشة وجهها إلى السماء ورددت دعاء نبي الله أيوب عليه السلام، وطلبت من الله أن يرحمها ويعطيها هي وأسرتها المسكينة. وفى أثناء عودتها إلى البيت وقفت أمامها سيارة فارهة، ونزل منها رجل كبير في السن أنيق، تظهر على وجهه الطيبة والرحمة. أوقف الفتاة الصغيرة وناداها باسمها قائلاً: يا عائشة، فنظرت إليه مستغربة، فقال لها:لا تخافي، أعرفك وأعرف أسرتك وما حدث لكم، أريد أن أساعدكم، فأخذها إلى بيتها وقال لأمها إن لديه بيتاً صغيراً بجوار القصر الذي يعيش فيه، فعرض عليها العيش فيه هي وأولادها حيث يرعاهم جميعاً ويتكفل بنفقاتهم وسيدخلهم المدرسة مثل باقي الأولاد والبنات، فهو محروم من الأولاد لأن زوجته غير قادرة على الإنجاب.

نظرت عائشة إلى الرجل ولم تصدق نفسها، وسألته: لماذا تفعل كل ذلك؟ قال الرجل: أفعله لوجه الله سبحانه وتعالى، فأنا رجل مسن وليس لدي أولاد وعندي أموال كثيرة، فلماذا لا تكوني أنت وإخوتك أولادي؟

فرحت عائشة وأحست بأن هذا فرج من الله عليها حين دعت بدعاء سيدنا أيوب، عليه السلام، وحمدت الله.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2dwtu2fe

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"