احتكاك قضائي دولي

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان

للمرة الأولى في التاريخ المعاصر تدخل محكمة جنائية دولية على خط الصراعات الكبرى، وما سبق أن حصل من إجراءات قضائية دولية؛ لا يشبه مذكرة التوقيف التي أصدرها مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة في لاهاي بحق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على اعتبار أن محاكمات نورمبرغ الدولية لقادة ألمانيا عام 1945، كانت محاكمة المنتصر للمهزوم، كما أن مذكرات التوقيف التي صدرت عن المحكمة الدولية ضد الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير عام 2009، وضد الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي 2011، كذلك توقيف الرئيس الصربي ميلوسوفيتش عام 2006 ومحاكمة رئيس ليبيريا تشارلز تايلور عام 2012؛ كلها لا تشبه الإجراء الذي اتخذته محكمة لاهاي بحق الرئيس الروسي في 17 مارس/ آذار 2023.

 فبوتين يترأس دولة عظمى تتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، وبلاده غير منتسبة لنظام روما الذي تأسست بموجبه المحكمة الجنائية الدولية عام 2002، وأوكرانيا التي كانت ضحية «جريمة الحرب» التي تمّ بموجبها نقل الأطفال من أراضيها إلى الأراضي الروسية - وفق ما أشارت مذكرة التوقيف الدولية – ليست عضوة في المحكمة الدولية أيضاً، ولكنها قبلت بأن تنظر المحكمة بملف الترحيل القسري للأطفال الأوكرانيين من دور الأيتام إلى روسيا، بناء لطلب تقدمت به 39 دولة أغلبيتها دول أوروبية غير محايدة، وعلى خصام مع روسيا.

 ونظام روما ينص على أن الدعوى ضد جرائم الحرب لا تتحرك أمام المحكمة إلا بناء على طلب مجلس الأمن الدولي، أو بناء لشكوى من دولة عضو متضررة من ارتكابات جنائية تشمل جرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، وجرائم الإرهاب، وجرائم الحرب، وهذه الارتكابات صنفتها اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 بأنها جرائم دولية تخضع للمساءلة أمام القضاء الدولي، لكن سبق أن وقعت مثل هذه الجرائم في العراق وفي فلسطين وفي أفغانستان وفي سوريا، ولم تُحرك المحكمة ساكناً.

 وتؤكد المواقف التي صدرت بُعيد صدور مذكرة التوقيف ضد الرئيس بوتين، أن القرار غير منعزل عن سياق الصراع الدولي القائم، وهو يرفع منسوب المواجهة في هذا الصراع، والإشادة بالقرار من قبل الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وحلفائه الغربيين، يشير إلى هذا التأثير السياسي، وقرار مدعي عام المحكمة الدولية، كريم خان، استند إلى معطيات سياسية أيضاً، واعتبر أن عملية نقل الأطفال الأوكرانيين من قبل مفوضة شؤون الأطفال الروسية، ماريا بيلوفا، المشمولة بمذكرة التوقيف؛ لا يمكن أن تحصل من دون موافقة الرئيس بوتين.

 مذكرة التوقيف الدولية ضد الرئيس الروسي، أضفت أجواء جديدة على الحرب الدولية التي تجري على الأراضي الأوكرانية، منذ أكثر من عام، وستكون لها مفاعيل قانونية وتأثيرات ميدانية كبيرة، بصرف النظر عن الاستخفاف الذي أبدته موسكو تجاه المذكرة، وهي اعتبرتها من دون أي قيمة، وليس للمحكمة أي علاقة بأحداث تجري على أراضي دول غير أعضاء في نظام روما، ومجلس الأمن لم يتخذ قراراً بإحالة الملف إلى المحكمة، وفق ما ينص عليه نظامها، كما قال الناطق باسم الكرملن، ديمتري بيسكوف. لكن المادة 89 من نظام روما تلزم الدول الأعضاء في المحكمة بتنفيذ مذكراتها والأحكام الصادرة عنها، وبالتالي فإن أكثر من 113 دولة في العالم يُفترض بها توقيف الرئيس الروسي إذا ما دخل أراضيها.

  من المؤكد أن المحكمة الدولية ليست قادرة على تنفيذ مذكرة التوقيف؛ لكن صدور قرار إحضار بوتين نقل حالة الاحتكاك الدولي إلى درجة أكثر توتراً، وتصنيف بوتين بأنه ارتكب جرائم حرب، سيدفع بالأخير إلى التشدّد أكثر تجاه خصومه في الغرب، وسيكون صعباً عليه القبول بأي شكل من أشكال الهزيمة، لأن ذلك سيرفع كل أنواع الحصانات عنه في الخارج، وبوتين سيعمل على تغذية المشاعر القومية لحماية نفسه من أي هزيمة داخل روسيا، لأن ذلك سيعرضه إلى تكرار التجربة التي حصلت مع الرئيس السوداني عمر البشير بعد أن ترك الحكم وأصبح من دون حصانة، وتعرّض للملاحقات الجنائية.

 يحاول الرئيس الصيني، شي جين بينغ، تدوير الزوايا لتلافي مواجهة دولية واسعة تهدد الاستقرار العالمي، وأطلق مبادرة للمصالحة بين روسيا وأوكرانيا، ويحاول من موسكو تخفيف ردود الفعل الروسية على الإجراءات الغربية – ومنها مذكرة التوقيف - لتخفيف منسوب التوتر المُقلق، لأن العالم يواجه تحديات مالية واقتصادية وأمنية وتجارية، ويحتاج إلى السلام.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4bzrzm5n

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"