أزمة المصارف.. «ترقيع المرقع»

00:22 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008 تداعت السلطات حول العالم لإصلاح النظام المالي والاقتصادي العالمي؛ لتجنب وقوع أزمة مماثلة في المستقبل. سنّت القوانين وعدلت اللوائح والقواعد لتشديد الإجراءات المتعلقة بإصدار مشتقات استثمارية عالية المخاطر أو وهمية، مثل شهادات ضمان القروض العقارية، التي كانت أحد أسباب الأزمة الرئيسية.

 وفرضت البنوك المركزية وسلطات التدقيق والمراقبة المالية قيوداً على النشاطات المغامرة للمصارف والمؤسسات المالية، وألزمتها بسقف سيولة احتياطية عالية؛ لتستطيع مواجهة الأزمات من دون حاجة لإنقاذها بأموال دافعي الضرائب. ثم بعد سنوات، بدأ تخفيف تلك القواعد والقيود لتعود الممارسات عالية المخاطر والمغامرات الاستثمارية؛ بهدف الربح السريع والكبير.

 كان يمكن للوضع أن يستمر من دون انكشاف واضح، لو لم يشهد العالم أزمة إغلاق اقتصادي بسبب وباء «كورونا» قبل ثلاث سنوات، ثم حرب أوكرانيا العام الماضي. وإن كانت السلطات تلوم البنوك والمستثمرين على أنهم ركنوا إلى استمرار أسعار الفائدة قرب الصفر، وتمادوا في استراتيجيات خاطئة، فإن اللوم الأساسي في تصوري يقع على السلطات.

 ليس فقط لأنها لم تراقب وتدقق بشكل سليم كي تلحظ أن بنوكاً مثل تلك التي انهارت في أمريكا أو كادت في أوروبا أنها باتت في وضع حرج مبكراً. بل لأن تلك السلطات لم تعمل منذ البداية على علاج وإصلاح الاختلالات الهيكلية التي أدت إلى أزمة 2008. فعلى رغم إجراءاتها المشددة التالية إلا أنها كانت إجراءات لعلاج الأعراض دون التعامل مع جذر المرض.

 ويُخشى أن ما تفعله تلك السلطات الآن في مواجهة أزمة انهيارات المصارف، رغم سرعته وقوته، لا يعدو كونه عملية «ترقيع» كما حدث في الأزمة السابقة قبل خمسة عشر عاماً. وهذه المرة سيكون تصرف السلطات مثل «ترقيع المرقع»، وبالتالي تقترب نقطة اهتراء ثوب النظام المالي الرأسمالي العالمي. وحينها لن يفيد ترقيع ولا مداواة للأعراض.

 يمكن سحب ما يحدث في النظام المالي العالمي على الاقتصاد العالمي ككل، بل يجوز حتى أن نقول إنه ينطبق حتى على النظام السياسي العالمي والعلاقات الدولية. فمنذ نهاية الحرب الباردة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي وكل محاولات ترسيخ «نظام عالمي جديد» أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة ليست سوى ترقيع المرقع أيضاً، حتى تفتَّق ثوب العلاقات الدولية من كل جانب، وأصبح مستعصياً على الرتق ليستر عيوب النظام الدولي.

قد تتمكن السلطات المالية والنقدية من تفادي أزمة عالمية نتيجة مشاكل القطاع المصرفي وانهيارات البنوك، لكن ذلك سيمثل ترقيعاً آخر في ثوب كثرت فيه «الرقع». ولعل الوقت مناسب الآن للتعامل بشكل جذري مع عيوب وعلل النظام، واستئصال ما لا يمكن إصلاحه، وإفساح المجال أمام نمو مكونات جديدة صحية أكثر.

 رغم آلام المشاكل الحالية، خاصة للمستثمرين وحملة أسهم القطاع المصرفي، إلا أن من إيجابياته أن النظام يتخلص من علله. فتبخر المليارات من الأموال التي لا تستند إلى أصول حقيقية مفيدة لتفريغ فقاعة غليان قد تؤدي إلى أزمات أعمق وأخطر وذات تأثير ضار طويل الأمد. وذلك ظرف مناسب إذا أرادت السلطات والحكومات أن تحدث إصلاحاً جذرياً في النظام المالي والاقتصادي العالمي.

وكما في مجال الاقتصاد والمال، يشهد العالم حالياً تكشف علل نظامه السياسي التي أبرزتها الحرب في أوكرانيا وما تلاها من حرب اقتصادية تتمثل في عقوبات خانقة على روسيا وعقوبات تتصاعد على الصين. تلك العقوبات التي تكاد تقضي على توجه «العولمة» الذي اشتد عوده منذ نهاية الحرب الباردة بين قطبي العالم السابقين في القرن الماضي.

 ربما لا يكون العلاج والإصلاح الجذري الأمثل لنظام العلاقات الدولية هو «عالم متعدد الأقطاب» كما تسعى الصين وروسيا الآن للدفع باتجاهه. لكن بالتأكيد ليس العلاج في الترقيع لثوب هيمنة أمريكا والغرب على العالم، وقمع أي محاولة صعود لأطراف أخرى. 

ليس هناك أخطر من استراتيجية «إضعاف الآخر لأظل أنا الأقوى»، وربما كانت أشد خطراً من محاولات ترقيع المرقع في النظام المالي والاقتصادي. فحتى لو تراجعت العولمة، فسيبقى العالم مترابطاً بعلاقات الاعتماد المتبادل مع تطور النشاط البشري وتعقيداته.

ليست هناك وصفة سحرية يتفق عليها الجميع لمعالجة جذور الأزمات الحالية والمتوقعة، في مجالات المال والاقتصاد والسياسة، إنما يحتاج الأمر في البداية إلى اقتناع القوى الرئيسية في العالم أن الحل ليس في المعالجات الآنية للأعراض. وأن الظرف قد يكون مواتياً الآن لعملية إعادة هيكلة شاملة لمصلحة الجميع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycksh23w

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"