عادي
زاد القلوب

محبة الله لسان الحكمة

21:17 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

«كلّ حب يعرف سببه فيكون من الأسباب التي تنقطع لا يعوّل عليه».

محيي الدين بن عربي

تلك الكلمات الملهمة والبديعة، هي لمحمد بن علي بن محمد بن عربي، الحاتمي الطائي الأندلسي، الشهير ب«محيي الدين بن عربي»، «1164 1240م»، وهو أحد أشهر المتصوفين. لقّبه أتباعه، وغيرهم من أصحاب التجارب الروحية، ب«الشيخ الأكبر»، ولذا تُنسب إليه الطريقة الأكبرية الصوفية، كما لقب ب«رئيس المكاشفين»، و«البحر الزاخر»، و«بحر الحقائق»، و«إمام المحققين»، و«محيي الدين»، و«سلطان العارفين»، وغير ذلك من صفات تشير إلى مكانته الكبيرة في قلوب محبيه، وهو كذلك شاعر وفيلسوف، أصبحت أعماله ذات شأن كبير، حتى خارج العالم العربي، وتزيد مؤلفاته على 800، لكن لم يبق منها سوى 100، كما غدت تعاليمه في مجال التصوف ذات أهمية كبيرة في أجزاء عدة من العالم الإسلامي.

انتشرت تعاليم ابن عربي بسرعة هائلة عبر العالم، ولم تكن كتاباته حكراً على نخبة المسلمين، بل وجدت طريقها إلى الطبقات الدنيا من المجتمع، نتيجة انتشار المد الصوفي. كما تُرجمت أعمال ابن عربي إلى اللغات الفارسية والتركية والأردية. ففي ذلك الوقت كان عدد كبير من الشعراء يتبعون المذهب الصوفي، وكانت أفكار ابن عربي بمثابة إلهام كبير لهم.

والمقولة تحمل في طياتها الحكمة، وفيوض المعاني، وتحتفي بالمحبة، وتبيّن أن كل حب تنقطع أسبابه لا يعوّل عليه، في إشارة واضحة إلى أن حب الله تعالى هو الأبقى، وهو الجدير بأن تهفو إليه النفس البشرية، ويتعلق به قلب المؤمن الحقيقي الذي يظل في شوق دائم ومستمر إلى ملاقاة ربه، من أجل أن ينال القبول والرضا، ويكون له الجزاء الأوفى في الآخرة، ولئن كان العشاق الذين تتعلق قلوبهم بعلاقات الحب والهوى العادية، يشكون من الفراق وحالة اللا وصل، فإن قلب المؤمن الحق في اتصال دائم مع خالقه، لا يشغله في ذلك شاغل من مغريات الحياة، حيث يكون الزهد هو زاده في الطريق الطويل إلى ربه، فإن صدق في محبته فإن ذلك هو المبتغى.

  • رسالة

وتلك المقولة النثرية تنتمي إلى «رسالة الذي لا يعوّل عليه»، التي أعدها ابن عربي، وضمت العديد من الحكم والأقوال التي دائماً ما تختتم بعبارة «لا يعوّل عليه»؛ أي لا يرجى منه، ولا ينطوي على فائدة، فهو أمر بلا معنى، ومن تلك الأقوال: «الاطلاع على مساوئ العالم لا يعوَّل عليه»، «الوارد الذي يرد من تغير المزاج لا يعوَّل عليه»، «الحركة عند سماع الألحان المستعذبة وعدمها عند عدم هذا السماع لا يعوَّل عليه»، «كل فن لا يفيد علماً لا يعوَّل عليه»، «الأنس بالله في الخلوة والاستيحاش في الجلوة لا يعوَّل عليه»، «الظن لا يعوَّل عليه»، «المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه»، «الظن لا يعوَّل عليه»، وغير ذلك من الكلمات والمعاني العميقة التي تعين المؤمن في المحبة والزهد، فهي بمثابة «خريطة طريق»، تقود السالك إلى الترقي وخير الحياة الدنيا والآخرة.

وهذه الكلمات الباذخات تعانق القلب فيرقّ ويتهيأ للمحبة، والتلقي، والسير في طريق السالكين العاشقين، وتقوده إلى سفر دائم، يبتغي فيه المؤمن القبول، وفيوضات المحبة، وأنوار المعارف في روحانيات بديعة، فالحب الخالص هو طريقهم، ومثل هذه المقولة المحرضة على المحبة، والتي تفيض رقة وعذوبة هي زادهم في رحلتهم، حتى أنهم لن يروا بعد محبة الله شيئاً آخر، ومثل هذه الكلمات والأقوال التي تبدو سهلة وبسيطة في معانيها، إلا أنها صعبة في التمثل، فلا تحصد أسرارها، ولا تدرك أنوارها، ولا تتنزل معارفها، إلا لمن أتى الله بقلب محب، وبنفس طيّبة راضية زاهدة، هي عوالم يكون فيها مقام التجلي بقدر العطاء في المحبة، فإذا مسّ المرء حظوة من ذلك ومقام، عاش في روح وريحان، فكان من أصحاب النفس المطمئنة الموعودة بالرضا، وأمثال هؤلاء هم الذين علموا حقائق الأشياء، ومعانيها.

ولعل قيمة مثل هذه المقولة الصادقة، أنها خالدة، ولئن كانت تصلح في زمان ابن عربي، فإنها لا تزال تحتفظ براهنيّتها وجدّتها لإنسان العصر الحديث الذي يتسم بالحياة المادية وثقافة الاستهلاك، ومثل هذا القول هو دعوة إلى أن ينفك الإنسان من أسر اغترابه الروحي ليعود إلى جوهره، وإلى خوض تجربة صافية روحية عامرة بالإيمان والأنوار والإشراقات، وما أحوج إنسان اليوم إلى مثل هذه الحكمة والدعوة إلى المحبة في زمن تكثر فيه الكراهية والحروب والخلافات والانقسامات والتشظي، وهو أمر يشوه الحياة الإنسانية والطبيعة البشرية، ويهدّد أمن الناس.

  • رموز

وقد تمثل ابن عربي تلك المقولة وغيرها، من حِكمه، فكان رمزاً من رموز العشق الذي يعوّل عليه، والمتمثل في ذلك الحب الذي يكون خالصاً لله رب العالمين، وقد عبّر ابن عربي عن ذلك الوجد وتلك المحبة بالشعر والمقولات الخالدة، والنصوص الفلسفية التي تدعو إلى سبيل الله تعالى، والتي تحتشد بالمعاني العظيمة والقيم الروحية التي تعكس تجربة كبيرة للزاهد السالك سلطان العارفين ابن عربي، أهداها للبشرية فصارت نبراساً ونوراً يقود إلى طريق الله تعالى.

  • توظيف

المقولة لا تزال شديدة التأثير، حيث تعتبر من أكثر الأقوال التي تم توظيفها في الأعمال الأدبية من شعر وروايات وشذرات، وغيرها، فالعديد من الأدباء استلهموها في كتاباتهم، لما تحمله من معان إنسانية وروحية عميقة، ولعل من أشهر الأعمال السردية التي احتفت بهذه الكلمات البديعة لابن عربي، هي رواية «موت صغير»، للكاتب محمد حسن علوان، تلك السردية التي احتشدت بمقولات أخرى من «رسالة لا يعول عليه»، ومنها: «كل شوق يسكن باللقاء لا يعوّل عليه»، و«كل حب يكون معه طلب لا يعوّل عليه»، و«كل حب يُعرف سببه فيكون من الأسباب التي تنقطع لا يعوّل عليه«، إضافة إلى أن الرواية نفسها كانت سياحة في سيرة ابن عربي، وإضاءة ساطعة على عوالمه العامرة بالحب، وما عنوان ذلك العمل السردي المميز «موت صغير»، إلا واحدة من المقولات الخالدة لابن عربي، حيث إن الموت الصغير هو الحب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3khkfskv

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"