السياسة وصراع النفوذ

00:59 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناجي صادق شراب

تعرف السياسة بدراسة القوة؛ أي القدرة على التأثير في السلوك السياسي للفاعلين الدوليين الآخرين. ومنذ المؤرخ اليوناني ثيوسيديدس والحروب البيلونيزية بين أسبرطة وأثينا، مروراً بالعديد من الحروب بين الدول، والحربين الكونيتين الأولى والثانية، وصولاً إلى الحرب الكونية المصغرة في أوكرانيا، فإن منطوق السياسة ثابت يقوم على مبدأ الأمن والبقاء، أو ما يعرف بالعقدة الأمنية أوعقدة ثيوسيديس. 

فالسلاح تغيّر لكن منطوق العلاقات بين الدول ثابت، وعلى هذه الفرضية تقوم نظرية القوة أو النظرية الواقعية في العلاقات الدولية التي تعتمد على مبدأ القوة.

وفي هذا السياق لا يمكن فهم التحولات في العلاقات الدولية إلا في سياق بيئة القوة على كافة المستويات الإقليمية والدولية، وهذا يفسر لنا ضخامة الإنفاق العسكري للدول حتى الدول الفقيرة منها، لذا توصف العلاقات الدولية اليوم بعسكرة العلاقات الدولية. 

وهذا الإنفاق العسكري هو أحد محدّدات تصنيف الدول على سلم القوة الدولي، وأحد معايير هيكلية النظام الدولي أحادي أو ثنائي أو تعددي القطبية. فعلى سبيل المثال تبلغ ميزانية الدفاع الأمريكية 858 مليار دولار، والصين 330 مليار دولار، وروسيا 70 مليار دولار، ذلك أن القوة العسكرية هي أحد ركني القوة الصلبة للدول، إلى جانب القوة الاقتصادية. وأساس العلاقات بين الدول هو الصراع القائم على توسيع شبكات نفوذها، بالسيطرة والتحكّم في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية. وهنا تلعب الحروب دوراً أساسياً في رسم وإعادة رسم الخرائط السياسية في المناطق والأقاليم التي تحدث فيها. فإذا كانت على المستوى الكوني كالحربين العالميتين الأولى والثانية، فالهدف يكون إعادة بناء نظام دولي جديد. ففي أعقاب الحرب الأولى خرجت عصبة الأمم إلى الوجود، وبعد الحرب الثانية خرجت منظمة الأمم المتحدة تعبيراً عن الثنائية القطبية التي تتمثل في الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. واستمر العمل بهذا النظام حتى تفكك الاتحاد السوفييتي. واليوم نرى الحرب الأوكرانية التي تتجاوز حدودها الجغرافية بمشاركة الولايات المتحدة ودول حلف «الناتو» في دعم أوكرانيا بالسلاح، بهدف إجهاض القوة الروسية. ولعل ما يحدث من توتر متصاعد بين الصين والولايات المتحدة، هو في جزء منه، محاولة غربية لمنع قيام نظام دولي تعددي تسعى إليه بكين وموسكو. 

هناك تراجع لنفوذ أمريكا والقدرة على ممارسة نفوذها وتأثيرها في العديد من المناطق في العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط، وذلك يتجلى في بروز الدورين الصيني والروسي، ورأينا ذلك في نجاح الدبلوماسية الصينية في الوصول إلى الاتفاق السعودي الإيراني الذي ستكون له تداعيات ملموسة في بناء النظام الإقليمي الجديد.

إن العلاقات الدولية منذ مؤتمر وستفاليا وظهور الدولة القومية كفاعل رئيسي في العلاقات الدولية التي يحكمها مبدأ المصالح الحيوية والنفوذ، فإنه لا عداوات ولا صداقات دائمة في العلاقات بين الدول؛ بل مصالح. وهذه المصالح تفسر لنا الكثير من الظواهر والعلاقات بين الدول، وآخرها كما أشرنا الاتفاق السعودي الإيراني، فلا يمكن فهم دوافعه بعيداً عن هذا الفهم.

إن المنطقة العربية قد تكون أكثر المناطق التي تعاني الصراعات الإقليمية والدولية، وهذا يفرض على دول المنطقة، إعادة بناء قوّتها الذاتية، وبناء تحالف عربي قادر على مواجهة التحديات والمخاطر المستجدة، وهذا ما نلحظه في المصالحات العربية وفي العمل على عودة سوريا إلى الحاضنة العربية، وبروز دور القوة الصلبة العربية المتمثلة في مصر والسعودية والإمارات، وما قد تشكّله من قوة ونفوذ يقلّصان نفوذ الدول الأخرى في المنطقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2xezev5y

عن الكاتب

أكاديمى وباحث فلسطيني في العلوم السياسية متحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومتخصص في الشأن السياسى الفلسطيني والخليجي و"الإسرائيلي". وفي رصيده عدد من المؤلفات السياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"