عادي
زاد القلوب

صلاح العقل.. زينة السالكين

23:44 مساء
قراءة 4 دقائق
4

الشارقة: علاء الدين محمود

«وَاعْلَم أَن كل عقل لَا يصْحَبهُ ثَلَاثَة أَشْيَاء فَهُوَ عقل مكار: إِيثَار الطَّاعَة على الْمعْصِيَة، وإيثار الْعلم على الْجَهْل، وإيثار الدّين على الدُّنْيَا، وكل علم لَا يَصْحَبهُ ثَلَاثَة أَشْيَاء فَهُوَ مزِيد فِي الْحجَّة: كف الْأَذَى بِقطع الرَّغْبَة، وَوُجُود الْعَمَل بالخشية، وبذل الْإِنْصَاف بالرحمة»- الحارث المحاسبي.

هذه الموعظة التي تنير طريق السالك هي للعلامة الحارث بن أسد بن عبد الله البصري البغدادي، «170 243 ه»، ولقب بالمحاسبي لكثرة محاسبته ومساءلته ومراجعته لنفسه، وهو يعد من أبرز أعلام التصوّف في القرن الثالث الهجري، وهو بصري الأصل، ولد سنة 170 ه، في بغداد، له تسعة مؤلفات مختلفة، وله مكانة كبيرة في تصنيف المتصوفين، وتبرز أهميته، لكونه من أوائل من اشتغلوا بالفقه وسلكوا طريق التصوّف وبرزوا فيه. وقد نشأ في بيت علم، لأب واسع الثراء من رجال الفكر والدين، وكان المحاسبي متفتح الذهن، متقد العقل، شديد الذكاء، واستقل عن طريق والده فزهد فيما عنده من مال، وقد برع في عدة علوم.

ونسبة لمكانة المحاسبي الفكرية والمعرفية الكبيرة في التصوّف فقد وصفه أبو نعيم الأصفهاني في «الحلية» فقال: «المشاهد المراقبي والمساعد المصاحبي، أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي، كان لألوان الحقائق شاهداً ومراقباً، ولآثار الرسول صلى الله عليه وسلم مساعداً ومصاحباً، وتصانيفه مدونة مسطورة، وأقواله مبوبة مشهورة، وأحواله مصححة مشهورة، كان في علم الأصول راسخاً وراجحاً، ومن الخوض في الفصول جافياً وجانحاً، وللمخالفين الزائفين قامعاً وناطحاً، وللمريدين والمنيبين قابلاً وناصحاً»، وللمحاسبي العديد من المؤلفات منها: «فهم القرآن ومعانيه»، «التوبة»، «بدء من أناب إلى الله»، «شرح المعرفة وبذل النصيحة»، «كتاب الرعاية لحقوق الله»، و«مائية العقل وحقيقة معناه»، و«آداب النفوس» و«التوهم».

وتلك الموعظة البديعة للمحاسبي، هي من كتابه «رسالة المسترشدين»، وهي تحمل بين طياتها الحكمة، ولئن كان لهذا السالك الزاهد الكثير من الأقوال التي يهذب بها النفوس، فإن هذه المقولة الشفيفة هي من باب تهذيب العقول، وكيفية إعدادها، لتلقي المدد والمعارف، ولعل الشرط الأول في ذلك السعي هو الصدق؛ وذلك ما أشار إليه المحاسبي بصورة خفية بليغة عندما لفت إلى أن العقل الذي لا تتوفر فيه تلك الشروط التي ذكرها إنما هو مكار؛ أي مراوغ وكاذب، وتلك الاشتراطات التي وضعها ذلك العلامة هي إيثار الطاعَة على الْمعصِيَة، وإيثار الْعلم على الْجَهْل، وإيثار الدّين على الدُّنْيَا؛ حيث إن المعاصي تحبط الأعمال وتحول بين العقل والتقدير السليم، كما أن حب العلوم والمعارف هي سمات العقل الخلاق، لكن كل ذلك لا فضل فيه ولا أهمية له من دون الدين الذي هو الأساس للوصول إلى العلم، وتعزيزاً لتلك الاشتراطات، فإن المحاسبي يدفع بأخرى لا يكون العلم بغيرها نافع، وهي: كف الأذى بالتخلص من أسبابها وضرورة الخشية والرحمة والإنصاف، وتلك الأشياء مجتمعة هي جوهر العقل المؤمن الذي يكون علمه لله تعالى.

أهمية

ويدعو المحاسبي، في المقولة إلى أهمية إصلاح العقل، وتعميره بالعلم النافع الذي يرضى عنه الله، تعالى، فهو زينة المؤمن، وفي المثل الشعبي العامي تقول العرب «العقل زينة»؛ وذلك دلالة على أهمية المعرفة، حتى في وسط عامة الناس، فهي التي ترفع من مقام الإنسان، وهي التي تقوده إلى الطريق القويم والصحيح، فالمرء في تأمله في الكون والمخلوقات والموجودات، تتكشف له عظمة الخالق، وإعمار العقل يتطلب مشقة ومجاهدة في إصلاح النفس بالأخلاق الفاضلة النبيلة، فهي التي ترتقي بالعقل، وفي سبيل ذلك لابد للمرء أن يعظ نفسه من أجل الارتقاء بها، ومفهوم الارتقاء له مكانة كبيرة في فكر المتصوفة؛ إذ إنه طريق طويل يسلكه الإنسان المحب لله، تعالى، حتى يسمو بنفسه ويصل بها إلى أعلى مراتب الحب والإيمان، وهذا الطريق يتطلب مراقبة عالية، وهذه شروط لا بد من استيفائها حتى يصل المرء إلى مراتب عالية في القرب من الله عز وجل، فيزهد الإنسان في كل شيء من ملذات الدنيا ومباهجها إلا ما يعينه في هذا الطريق القاسي، الذي تروض فيه النفوس ترويضاً صعباً، حتى يستطيب لها خشن العيش وترك الشهوات، وبذلك يسمو مقصدها بعد أن تكون صارعت أهواءها حتى صرعتها، لتمتلئ باليقين والمحبة، وتتنزل عليها فيوض النور وتطمئن وتعلم أنها في الطريق الصحيح من محبة الله تعالى، وفي هذه الحالة فإن أنوار المعارف تغمر العقل وتصلحه فتقوده إلى طريق النور.

حوار الذات

ومقولة المحاسبي تلك يتضح فيها أسلوبه؛ حيث كان دائماً يميل إلى الوعظ اللطيف الجميل الذي يأتي كأنه نظم بديع، تحتشد فيه الأساليب البلاغية الجمالية، والمعاني السامية التي تدل المؤمن على طريق الخير والرشاد، وفي هذه الموعظة، فإن المحاسبي يربط بين العقل والنفس، ويقف على العلاقة الجدلية بينهما؛ حيث إن صلاح النفس هو أساس العقل السليم المستنير بالمعرفة، لأن النفوس تتلقى المدد والإشراقات النورانية، وبالتالي فإن المقولة تشير إلى تلك الأسرار، كما أنها سياحة روحية حافلة بالجمال، ودعوة إلى ترويض النفس وتطهيرها ومحاسبتها، من أجل تزكيتها والسمو بها؛ لذا فإنه يقول: «اعرف يَا أخي نَفسك وتفقد أحوالها وابحث عَن عقد ضميرها بعناية مِنْك، وشفقة مِنْك عَلَيْهَا؛ مَخَافَة تلفهَا، فَلَيْسَ لَك نفس غَيرهَا، فَإِن هَلَكت فَهِيَ الطامة الْكُبْرَى والداهية الْعُظْمَى، فأحِدّ النّظر إِلَيْهَا يَا أخي بِعَين نَافِذَة الْبَصَر، حَدِيدَة النّظر؛ حَتَّى تعرف آفَات عَملهَا، وَفَسَاد ضميرها، وتعرف مَا يَتَحَرَّك بِهِ لسانها، ثمَّ خُذ بعنان هَواهَا، فاكبحها بحكمة»، وهي كلمات يؤكد فيها المحاسبي أهمية الحكمة، ويكشف عن العلاقة بين النفس والعقل من خلال حوار الذات.

والمقولة تتحدث عن صاحبها نفسه؛ حيث عمل المحاسبي، على محاسبة نفسه وتطهيرها، من أجل أن يتوهج عقله بالمعارف الصالحة، وقد كان بالفعل من العلماء الذين اهتموا بالعقل وكانت له مؤلفات متخصصة في هذا الموضوع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/559ca4um

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"