رهان العلاقات الأمريكية الهندية

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

دفعت متطلبات الواقعية السياسية خلال عقدين من الزمن واشنطن ونيودلهي إلى إعادة النظر في علاقاتهما الثنائية، لتشهد بذلك هذه العلاقات نمواً مطرداً فرضته المصالح المشتركة بين الجانبين من جهة، والتحولات الجيوسياسية التي يعرفها العالم من جهة أخرى؛ إذ تنبع حاجة الهند إلى تطوير شراكتها مع الولايات المتحدة، من منطلق حرصها على تنويع مبادلاتها الدولية في المجالات الاقتصادية والدفاعية للمحافظة على توازن القوى في محيطها الإقليمي، لا سيما في مواجهة الصين وباكستان.

ويمكن تفسير رغبة أمريكا في نسج علاقات أكثر قوة مع الهند، من منطلق حرص واشنطن على ترسيخ تحالفاتها مع دول شرق آسيا، بهدف محاصرة الصين في محيطها الجيوسياسي، من خلال تشجيع التعاون بين الهند وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، وهي دول تملك قدرات اقتصادية هائلة يمكنها أن تشكّل فائض قوة لكبح جماح التقدم الصيني المتصاعد.

وفي رأي المراقبين، يمثل المجال التكنولوجي والرقمي وكل ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي الحافز الأكبر بالنسبة لواشنطن، من أجل تنويع وتطوير تعاملاتها مع الهند التي تمتلك قدرات هائلة ومشهود لها في ابتكار وصناعة الرقائق الإلكترونية، لذلك فقد تم في 10 من مارس/آذار 2023 إبرام اتفاقية تعاون بين الهند وأمريكا، تهدف إلى تطوير قطاع أشباه الموصلات وكل ما يتصل بتكنولوجيا أنظمة التواصل والمعلومات.

ويسعى هذا الاتفاق إلى إعادة إدماج الهند ضمن سلاسل التوريد العالمية لهذه المنتجات ذات التقنية العالية، لتحقيق وفرة أكبر في مجال أشباه الموصلات، وذلك على حساب مصالح الصين التي تعمل واشنطن على فرض مزيد من الحصار عليها لمنعها من تصدّر قطاع الصناعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في العالم، كما تشير ملحقات هذا الاتفاق الأمريكي الهندي إلى أن هناك رغبة جدية من قبل الطرفين لتطوير التعاون بينهما في قطاع المعلوماتية الكمية والصناعات الدفاعية.

وهناك العديد من المراقبين الذين يرون أن هذا الاتفاق مثّل نصراً واضحاً لواشنطن على حساب بكين؛ كونها استطاعت أن تحصل على دعم مباشر من أكبر منافس للصين في آسيا. ويعترف هؤلاء على الرغم من ذلك، بأن الخلاف مع الصين لم يكن يمثل السبب الأوحد الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى إبرام هذا الاتفاق؛ إذ إن كل التقارير تشير إلى أن الولايات المتحدة تعاني بشكل واضح نقصاً فادحاً في الكفاءات البشرية بشكل بات يعرقل خططها الهادفة إلى إعادة توطين صناعة أشباه الموصلات فوق التراب الأمريكي.

وفي مقابل هذا النقص هناك وفرة ملحوظة بالنسبة للكفاءات الهندية المتخرِّجة من المعاهد الهندية للتكنولوجيا التي يتجاوز عددها 20 معهداً عبر مختلف المحافظات. وفضلاً عن ذلك، فإن تأخر الهند في إنتاج شبه الموصلات مقارنة بدول آسيوية أخرى، لم يمنعها من احتلال المرتبة الثانية بوصفها ثاني مركز عالمي في تصنيع المنتجات الإلكترونية بعد الصين.

وعلى الرغم من هذا الانتعاش في العلاقات بين واشنطن ونيودلهي، فإن هذه العلاقات لم تكن دائماً على ما يرام، حيث مرّت بعدة فترات من المد والجزر، فقد فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية على نيودلهي بعد التجارب النووية التي قامت بها الحكومة الهندية سنة 1998، وظلت العلاقات بين الطرفين متأزمة إلى حد بعيد، نتيجة الدعم الذي كانت تقدّمه واشنطن لباكستان، ولم تبدأ في التطور بشكل ملحوظ إلا مع بداية سنة 2004.

ومع ذلك فإن الحكومات الهندية المتعاقبة حرصت منذ تلك الفترة على ألا تطوّر شراكتها مع أمريكا، على حساب شراكاتها مع حلفائها التقليديين وفي مقدمتهم روسيا.

ويمكن القول عطفاً على ما تقدّم، إن اتفاقية التعاون التكنولوجي التي جرى عقدها بين العاصمتين، لا تشكّل في واقع الأمر، رهاناً حقيقياً مشتركاً بالنسبة لكلا البلدين، فواشنطن تراهن في مجال التكنولوجيا على التعاون مع تايوان وكوريا الجنوبية واليابان التي مازالت تبدو حتى الآن وكأنها محميات أمريكية، كما أن الهند حتى وإن كانت تتوجس خيفة من التطور الهائل للجار الصيني، فإنها تملك أجندة جيوسياسية مستقلة عن واشنطن؛ بل إن تحالفاتها لا سيما داخل «مجموعة البريكس» لا تتماشى مع المخططات التي تسعى واشنطن إلى تنفيذها في منطقة شرق آسيا و«الباسفيك».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y8z6z3uv

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"