فتنة «التوقيت» في لبنان

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

عندما تنشغل الدولة عن القضايا الحياتية والمصيرية، وتهتم بسفاسف الأمور، تكون أعلنت العجز عن الخروج من مستنقع الأزمات الذي سقطت فيه، أزمات هي من صنَعتها، وهي من تغذّيها وتحرص على بقائها، وليتها تكتفي بالأزمات القائمة، ولكنها تضيف جديداً إليها، من حين لآخر.

عن لبنان أتحدث، لبنان الأزمات المتلاحقة، لبنان الذي لم يعد قادراً على الإفاقة من غيبوبته، لبنان الذي استمرأ ألا يكون موحداً، ولا يدرك أن طريقه الأوحد للعودة إلى الحياة هو أن يكون كذلك، ولكن من أين يأتي التوحد وأمراء طوائفه يريدونه منقسماً مشتتاً، حتى يستطيعوا مواصلة الرقص على أشلائه، الرقصة الأخيرة التي لا رقص بعدها، بل بكاء، ونحيب، وندمن في وقت لن ينفع فيه أي منها.

يستكثرون على لبنان أن يكون واحداً، ويصرّون على ألا يكون اثنين فقط، بل أكثر، ولمَ لا، وهم الذين تدربوا على أن يكون لبنانَين بحكومتَين في الثمانينات، حكومة سليم الحص، وحكومة الجنرال ميشال عون، كما تدربوا خلال الحرب الأهلية على أنه ليس واحداً، بل جماعات وميليشيات تتطاحن وتتقاتلن ويديرها من الخارج من يمّولونها ويسلّحونها، حتى يقضي أبناء الوطن الواحد عليه، وعلى بعضهم بعضاً، وخلال الحرب راجت في وسائل الإعلام العالمية أخبار «الشرقية» و«الغربية»، وهما ليستا منطقتين متباعدتين، بل هما مدينة واحدة، وعاصمة غير موحدة، هما بيروت التي قسّمها رعاة الاقتتال بالشراكة مع أمراء الطوائف.

وآخر بدع هؤلاء كان التوقيت الصيفي الذي قسّم اللبنانيين ثانية، بعد أن صدر بيان من مجلس الوزراء يوم 25 مارس/ آذار لتأجيل تقديم الساعة مراعاة للصائمين في شهر رمضان، وهو البيان الذي كاد يشعل فتيل فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين، وتحيي ذكريات سنوات الحرب الأهلية السوداء.

وتحاشياً للفتنة صدر قرار عن الحكومة بإلغاء القرار السابق والعمل بالتوقيت الصيفي، كما كان الحال في السنوات السابقة.

لأيام، انشغل اللبنانيون عن أزماتهم الكبرى بالأزمة الأصغر، والتي تضخمت بفضل النفخ السياسي فيها، وتجاوزت المنطق والمعقول، وأنست الناس أنهم دولة بلا رئيس منذ خمسة أشهر، وسيضاف إلى هذه الأشهر أكثر منها حتى يتم التوافق على رئيس، بعد أن فشل النواب على مدار 11 جلسة نيابية في انتخاب رئيس، وأنستهم أزمات الكهرباء والغاز والمازوت والبنزين، وأنستهم أزمات الليرة التي تجاوزت قاع القاع بعد أن تجاوز الدولار سقف السقف، وأنستهم خيبة أملهم في نظامهم المصرفي الذي كان يُحتذى في الماضي وتحول من حافظ لأموال وأسرار المودعين إلى ساطٍ عليها، وفاضح لهم.

وأنستهم عجز النظام القضائي عن الكشف عن المتورطين في تفجير المرفأ ومحاسبتهم، وأنستهم نسبة الفقر المتزايدة يوماً بعد يوم، ونِسب هجرة الشباب والصبايا المنذرة بتحول الدولة الشابة إلى عجوز تحتضر، وأنستهم أزمات الغلاء والغذاء والدواء، أنستهم أنفسهم ليتدافع الناس بشكل هستيري على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن مواقفهم بخطاب طائفي كريه، ينشر الحقد والكراهية بين الناس، ويعفي صناع الفتنة من مسؤوليتهم عن تفتيت المفتت.. بلبلة أثارتها الحكومة اللبنانية قبل أن تعود عن قرارها، معتمدة التوقيت الصيفي العالمي، ومحاولة إطفاء نار الفتنة التي كانت ستحرق المحترق، بعد أن هزت جبال لبنان، ووديانه.

ليس جديداً أن يكون لكل مسؤول قراره في لبنان، فهو الدولة الوحيدة التي لا يلتزم فيها الوزراء بقرار، وهو الدولة الوحيدة التي يخلو قصرها الرئاسي، من حين لآخر، من ساكن له، وهي الدولة الوحيدة التي تكون مدة حكومات تصريف الأعمال فيها أطول من مدة الحكومات العادية، وهي الدولة الوحيدة التي تتجاوز فيها سلطة أمراء الطوائف وزعماء الأحزاب سلطات الرئيس، والحكومة، والبرلمان، والقضاء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p9amyt8

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"