عادي
بروفايل

ماكرون.. «الشياكة» السياسية تواجه «التقاعد»

01:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
ماكرون

كتب - د. أيمن سمير

أصغر رئيس في تاريخ بلاده، لا يعرف الخوف ولا يخشى النزال، عنوان ل«الشياكة السياسية» والأناقة التي عرفت بها بلاده على مر العصور، بلاغته وخياله يفوقان الحدود، صورته تعكس عظمة لويس الرابع عشر، وكلماته تشعرك بأنك أمام فيلسوف ليس لأنه درس الفلسفة في مدرسة شرق باريس؛ بل لأنه سليل الفلاسفة العظام أمثال ديكارت وفولتير وجان جاك روسو وأوغست كومت وجول ميشيليه وألكسي توكفيل وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار.

لا يخشى أن يسير عكس التيار، ويشهد على هذا الكثير من مواقفه الداخلية والخارجية، ما يؤمن به يقاتل من أجله، صاغ معادلة سياسية جديدة ليس فقط لبلاده؛ بل للقارة الأوربية بأكملها، ولهذا أصبح نموذجاً وعنواناً في الطموح والإنجاز وتحدي التحديات.

تقوم قيادته للبلاد على «الرؤية البانورامية» ومواقفه وتصريحاته وقراراته منذ أن كان وزيراً للاقتصاد وحتى ولايته الثانية في الحكم تؤكد أنه صاحب مواقف إيجابية تقوم على معاني «دعم الآخرين» و«التمسك بالإنجاز» و«التحلي بالمسؤولية» و«عدم الهروب من المشكلات».

يؤمن بعظمة بلاده، وأن «الأشواط البعيدة» تبدأ بخطوة، فعندما فكر في الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2016 سخر البعض ممن اعتبروها «آمال جامحة»، لكنه بحلول مايو من العام التالي كان هو الرئيس الذي يسكن في مقر الرئاسة.

يرى في بلاده القوة والمحرك للتفاعلات السياسية الأوربية والدولية كما كانت دائماً منذ ظهور مملكة الفرنجة عام 509 مروراً بملوك ورؤساء أمثال شارل الكبير، وفيليب الأول ولويس الخامس، ونابليون بونابرت، وشارل ديجول.

إنه الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون الذي تحدى الجميع في قانون التقاعد الجديد، فلم تهتز له شعرة واحدة رغم تحالف أحزاب اليمين ونقابات وقوى اليسار، لإسقاط مشروعه في رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، وفي النهاية انتصر ماكرون وتراجع الآخرون.

معركة سنّ التقاعد هي أحدث «عناوين التحدي» في حياة الرئيس الفرنسي الذي كان في الحزب الاشتراكي الحاكم وقتها، لكنه قرر في شجاعة كبيرة أن يترك الحزب وقاعدته العريضة والتاريخية، ليس للذهاب إلى حزب آخر قائم وموجود ولديه فرصة في المنافسة كما يفعل الكثير من السياسيين، بل لتأسيس «الماكرونية» التي أصبحت «المرادف السياسي» لفرنسا الجديدة، وهو ما يؤكد أن ماكرون الذي ولد في ديسمبر عام 1977، وتولى الحكم منذ عام 2017، نجح في صياغة « نهج جديد» في السياسة الفرنسية يرتكز على تيار سياسي عريض وفاعل وقوي بدأ في ظل مفهوم ومسمى«إلى الأمام»، واليوم يعمل تحت راية«الجمهورية إلى الأمام»، هذا التيار السياسي أسسه ماكرون في أشهر قليلة، وتغلب به على كل أحزاب اليسار واليمين التاريخية، وحتى على أحزاب الوسط القديمة في جميع أنواع ومراحل الانتخابات منذ عام 2017.

ماكرون الذي تولى الحكم وهو لم يتجاوز ال«39» عاماً يقود دولة أسست الاتحاد الأوروبي مع ألمانيا، وبلاده عضو دائم في مجلس الأمن وحلف الناتو ومجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى ودول العشرين الكبار، واستطاع الزعيم الفرنسي الشاب أن يتعامل بذكاء مع كل الأنواء والعواصف التي جاءت بها جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، ساعده في هذه«المهارة السياسية» التي تلمس مبادئها من دراسة الفلسفة في جامعة شرق باريس، أنه من خريجي« المدرسة الوطنية للإدارة»، والتي يطلق عليها«قمة القمم» في التعليم الفرنسي، وهي التي تخرّج فيها كبار السياسيين الفرنسيين، بل تخرج فيها 3 رؤساء قبل ماكرون هم: فاليري جيسكار ديستان، وجاك شيراك، وفرنسوا أولاند، كما تخرج فيها 7 رؤساء حكومات أبرزهم: جاك شيراك ولوران فابيوس وميشال روكار وإدوار بالادور وألان جوبيه وليونيل جوسبان ودومينيك دو فيلبان.

ماكرون الذي يقود أكبر دولة في أوروبا من حيث المساحة بعد روسيا وأوكرانيا يحلم«بأوربا الجديدة» التي تستطيع أن تثق في نفسها وفي قدراتها وتقلل من«الاعتمادية» على الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا طرح ماكرون مشروعات سياسية وأمنية وجيوسياسية غير مسبوقة، منها مشروعه « للجيش الأوربي الموحد»، وهو الاقتراح الذي تأكد حاجة الأوربيين له مع الحرب الروسية الأوكرانية، كما أنه من داعمي مشروع « قوة التدخل السريع» التي أقرها المجلس الأوربي في 21 مارس 2022، فالرئيس ماكرون الذي وصف يوماً حلف الناتو ب«الميت إكلينيكياً»، كان وراء صحوة أعضاء دول حلف شمال الأطلسي«الناتو» للعمل معاً وإعادة إحياء روح الحلف التي تأسس عليها في عام 1949.

التسامح السياسي

تتسم شخصية وسياسة الرئيس ماكرون« بالتسامح السياسي»، والبحث الدائم عن« المساحات المشتركة» مع الآخرين بغض النظر عن نقاط ومحاور الخلاف، كانت السر وراء نجاح ماكرون، والأمثلة على ذلك عديدة وشهيرة، فالرئيس الفرنسي استعان بكثير من الوجوه التي لم تتحمّس في البداية لترشحه للانتخابات الرئاسية، كما أنه استطاع أن يسمو على الخلافات مع الرئيس جو بايدن الذي استبدل بريطانيا بفرنسا في صفقة الغواصات الأسترالية الشهيرة، والتي خسرت فيها فرنسا نحو 60 مليار دولار، وساهمت «الروح الماكرونية» المعتدلة في تجاوز الكثير من الخلافات الأوروبية مثل «الخلاف الفرنسي البريطاني» حول حقوق الصيد أو المهاجرين من الساحل الفرنسي إلى بريطانيا، وإيمانه بأوروبا وتسامحه السياسي كان وراء تجاوز «الخلافات مع ألمانيا» سواء حول دعم برلين للطاقة أو خط نقل الهيدروجين من إسبانيا إلى فرنسا وألمانيا، كما أن «الروح الماكرونية» المعتدلة والشامخة أيضاً تعمل على «إعادة التموضع» الفرنسي في القارة السمراء التي كانت وستظل من أهم معاقل «الفرانكفونية» واللغة الفرنسية التي يتحدث بها أكثر من 272 مليون شخص حول العالم.

يعتقد الرئيس ماكرون أن أمن وازدهار وفرنسا لا يمكن أن يكتمل دون أن يكون هناك سلام ورخاء في دول الجوار، ولهذا يعمل على «تصفير المشاكل» الحديثة والمتوارثة مع دول الشمال الإفريقي، وباتت العلاقات الفرنسية العربية خاصة مع دول الخليج نموذجاً في العلاقات بين الدول والتي تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p9e65us

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"