الكاتب القارئ

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

أنا من المؤمنين بأن الكاتب الجيد هو، بالضرورة، قارئ جيد، فالموهبة وحدها، مهما علا شأنها، عاجزة عن خلق مثل هذا الكاتب الجيد، إن لم يستمر في التزود الدائم بالمعرفة من ينابيعها المختلفة، قديمها وجديدها، ليستلهم منها ما هو جديد. وأمام هذا «الزخم» الهائل في حياتنا الثقافية من الكتب، كثيراً ما يصدمنا، رغم بريق العناوين والمسميات، أن من ألّفوها ليسوا قراء، ولنقل ليسوا قراء جيدين، في أدنى تقدير.
 أذكر أني سمعت من الناقدة اللبنانية البارزة د. يمنى العيد في ندوة أقيمت في الشارقة في التسعينات الماضية، قولاً مفاده أنه «ما من كتابة لا تنطلق من اللاكتابة»، وهو، فيما نرى، قول يصب في المعنى نفسه، أي أن أي كتابة جديدة لا بد أن تنطلق من كتابة سابقة لها، لا بمعنى استنساخها أو تكرارها، وإنما بمعنى تمثّلها لتصبح ولّادة لكتابة جديدة، مختلفة، لأن كاتبها مختلف، ولأن تكوينه المعرفي وتجربته الحياتية مختلفان.
 وفي حوار مع الناقد والمفكر المغربي البارز عبدالفتاح كيليطو، أجرته معه، بالفرنسية، أمينة عاشور، وتضمّنه كتاب «كيليطو.. موضع أسئلة» الذي ترجمه إلى العربية زميله ومواطنه عبدالسلام بنعبد العالي، قال كيليطو إن أحد الطلبة أطلعه على عمل تخيّلي وضعه، وعند الحديث مع الطالب تبين لكيليطو أنه لم يقرأ رواية قط، ولا مجموعة قصص، وأنه كان عاجزاً عن أن يذكر له ولو عنواناً واحداً لكتاب قرأه. وكانت غاية كيليطو هي الاستهجان من أمر كهذا، فكيف لمن يتطلع لأن يصبح كاتباً ألا يكون اطّلع على كتب أخرى، وفي الحقل ذاته الذي يرغب أن يصبح كاتباً فيه، كما هي حال هذا الطالب.
 ينسب إلى نيتشه قوله «إن القراءة المبالغ فيها عائق»، لكن كيليطو يرى في المقابل، أن قراءات نيتشه الشاسعة لم تحل بينه وبين أن يصبح ما أصبح عليه، فيلسوفاً خلّده التاريخ.
وطالما أننا أتينا على ذكرعبدالفتاح كيليطو فلا بأس من إيراد إجابته عن سؤال وُجّه إليه من قبل المحاورة نفسها، لعله على صلة بالموضوع. يقول السؤال: «ما هو الكتاب الذي ستحمله معك إلى جزيرة غير مأهولة؟»، ولما سألها كيليطو مندهشاً: كتاب واحد؟ أجابته: فلنقل اثنين، كان ردّه كالتالي: «قاموسان. عربي وفرنسي. بما أن التركيب بين الكلمات لا متناه، فإنني سأتمكن، ربما في عزلة جزيرتي، أن أعيد بناء أجزاء من الأدب العربي، ومقاطع من الأدب الفرنسي، وشظايا من الأدب الأوروبي».
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5aw77j3n

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"