حضارة الصمت السريعة الذوبان

00:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

أكتب مشغوفاً بالتحولات الرائعة والانشغال؛ بل الاشتعال بالتغيير في الشكل والمضمون، أرقبها وأتابعها وأناقشها مع شابات وشباب مسكونين بحلم يطردون فيه من ساحات لبنان الفقيرة نحو جزيرة العرب وإماراتها، حيث يوقظ القادة الصحاري ليبسطونها مساحات خيالية زاخرة بالرؤى المستقبلية والابتكارات التي تناطح السماء محورها فكرة التسابق نحو ركض الزمان. يتحسس المرء جسده هناك فيجده رقمياً كونياً تخلّص من أعضائه الثقيلة، ويستفقد عينيه الجاذبتين للكون بما يتجاوز الآذان المرصوفة من حولنا بالمآسي والنقيق الرتيب المتكرر والشكوى والعجز والخوف.

هكذا تقفز المسافات بين الأجيال من:

1-المعتقدات الأبدية نحو المعلومات الفضائية، مروراً بالمعارف التقليدية التي طحنتها الخبرات المعاصرة اليسيرة. تتشابه هيبة الكتابات الثابتة مع ملامح المعلومات أو الأخبار ومدى سلطاتها الفورية ووقائعها على الناس. إنها معلومات مضيئة وكأنها لا تقبل الدحض ولربما لا تسمح به، لأنها محفوفة بالدهشة «الإلكترونية» عبر بنوك المعلومات. 

2 -سلطات الأساطير المتجاوزة للعقل والباهرة للخيال إلى سلطات الصور التي تعيد رسم الكون بوقائعه، مروراً بالكلمة المنحوتة بأزاميل العقل والتفكير. أقترح هنا لذلك مصطلح «الإيماغوس» أو الصورة تعبيراً عن السلطة البصرية السهلة في تلقّف العلوم والثقافات.أزعم بأن «الإيماغوس» هي الرافعة لثقافات اللحظات البصرية الرائجة اليوم عنواناً قد يستغرق صالحاً للعقود المقبلة حين تتلاقح شعوب الأرض ولغاتها وثقافاتها.

«الإيماغوس» مشتق من ال IMAGE بمعنى الصورة باللاتينية تسبق اللغة وتُهملها أمام هيولي الاتصالات الإلكترونية والاختصارات والإشارات والرسوم المعبرة في الشاشات المتعددة اللامتناهية بوظائفها التي تغمر الكون بناسه وتُبهرهم بأضواء صناعات الذكاء اللامتناهية.

 يكفينا الانتباه إلى أولادنا وأحفادنا لنلاحظ مدققين مدى عشقهم للصمت لا للصوت والكلام البرقي المختصر لا المطول المكثّف. هم يحتقرون الكلام الطويل والمحادثات الرتيبة المملّة. عالم جديد خاص له عوالمه المتعددة. أسارع شرحاً للظاهرة، لأطمئن بأن الكتابة لن تموت، لكنها ستنكمش أكثر لنكتشفها غداً ابنة الاختصارات البرقية. تستمر الكتابة منقادة للشفوية وتعابير الوجه والجسد. وخلافاً لدراسات كثيرة نُشرت حول موت الكتابة التقليدية، ينمو المكتوب فيترك خلفه نصوصاً حديثة فائقة التعبير بحروف أو رموز دائمة الابتكار تحفظ لا القيمة للكلمة؛ بل للتواصل والتفاهم السريعين وإلا فإنها تُهمل أو تموت. نحن نعيش أزمنة استدعاء الكلمات المحسوبة كلماتها بدقة، لا عصر البلاغات والاستفاضات اللغوية القديمة وتكديس النصائح وختم ذاكرات الأجيال بالثوابت؛ بل إفراغ الرؤوس من الأفكار والصور والنصوص وإيداعها في الغيوم لاستدعائها عند الحاجة.

 ليس التركيز على مصطلح «الإيماغوس» المبتكر سوى لفهم هذا التحوّل النرجسي الهائل المعاصر نحو الصور التي تنطبع في الأذهان لتُحفظ قبل الكلام والتعبير. لا أحزن لذلك عندما نستذكر معاً تلك الظواهر في ولادات الكتابة عبر تاريخنا القديم سواء عبر الصور الهيروغليفية في مصر أوالمسمارية في بلاد ما بين النهرين.

يغادر الإنسان المعاصر عبر الصورة المواطنية إلى العالمية، فلا يعود مزروعاً ببقعة أبدية في الأرض؛ بل مستهلكاً في الأرض والفضاء مع الفاعلين والمستهلكين في العالم بجنسياتهم وثقافاتهم المتنوعة، منجذباً لسلطات الإعلانات الثابتة بصفتها «المقدس» في محيطات من الصور الجذابة والديمقراطية، وتتساوى فيها الأجناس والثقافات والبلدان.

3- تخرج الأجيال تباعاً وبرتابة ساحرة من العادات والقوانين والشرائع المحلية القديمة أوالمستوردة كما من المنظومات المحدودة المستهلكة إلى العالمية غير المحدودة؛ حيث «المشاعية» المنظمة واللحظة البرقية الذكية وتجليات الرأي الحر المستقل في معظم بقاع الأرض. يتقدم الجسد بدوره ليشغل سبل حلول تعقيدات البيئة والمناخ والتلوث والتغذية والصحة والمال والهجرة والعلاقات البشرية والدولية ومعضلات الحدود على أنقاض تحرير الفكر الثابت والماضي المقدس.

4- أضع خطاً تحت النجومية العالمية الرياضية والمتنوعة الميادين الساحرة لأجيال الشابات والشباب وفق هندسات دولية حديثة تتوخى صورة البطولة وقطف الشهرة أمام الشاشات والعيون العالمية وفي ما يتجاوز الملاعب المحلية إلى الملعب الكوني.

 لا تنفصل هذه التحولات إلا منهجياً، أسوقها على سبيل المثال، للتفكير بمستقبل السلطات التقليدية المتراكمة في بلادنا الناهضة بعدما أصبحت الدنيا شاشة تلمع ببريق القادة وإنجازاتهم ولحاقهم بالعصر والدول ومن حولهم الشباب والشعوب تحقيقاً للحضارة الصامتة السريعة الذوبان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yxyw3j2r

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"