نظام تحديد المواقع والتجسس الدولي

00:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

غني عن القول إن عالمنا اليوم يشهد ثورة علمية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وهي تؤرخ لمرحلة جديدة من تاريخ البشرية المعاصر باعتبارها الحدث الأبرز الذي صبغ البشرية بطابع الحداثة والتقدم.

 لقد ساعدت التكنولوجيا الرقمية على فهم إشكالات الحياة ومفارقاتها اللامحدودة، وقدمت للبشرية كل ما تحتاج إليه من متطلبات التطور في كل ميدان من ميادين الحياة صغر هذا المجال أم كبر، حتى المجالات غير المحسوسة، كالنفسية والاجتماعية، كان للتكنولوجيا تأثير مباشر عليها. ومن هنا فقد استثمرت القوى العظمى إبداعاتها العلمية في إبداعات حققت لها، وللبشرية، فوائد هائلة، ولعل أهمها، الإبداعات العلمية في مجال الفضاء، والتي حققت ما كان مستحيلاً على الأرض، وهذا ما نراه في هذه الاتصالات التي جمعت بين مختلف الشعوب، وأصبحت كبسة زر واحدة كفيلة بإيصال رسالة مكتوبة أو صوتية أو مرئية إلى أية نقطة في العالم.

 إن هذه النقلة لم تكن لتتحقق لولا جهود أولئك المهندسين وعلماء الفيزياء الذين درسوا الفضاء من على الأرض أولاً، ومن ثم درسوه بشكل أعمق بعد إرسال أول قمر اصطناعي إلى مداره في الفضاء من قبل السوفييت عام 1957، وكان ذلك يمثل اختراقاً علمياً هائلاً.

 وفي هذا الصدد فقد كان نظام تحديد المواقع الذي ابتدعته عقول العلماء مخصصاً في البداية لأغراض عسكرية، مثل: توفير نظام ملاحي للجيش وحلفائه لمساعدة الطائرات والقطع البحرية للوصول إلى أهدافها في مختلف الأحوال الجوية. وقد طور الأمريكيون نظامهم الخاص لتحديد المواقع والذي يدعى «جي بي أس» في حين أن السوفييت طوروا نظامهم المماثل المسمى «جلوناس»، وكلا النظامين يقومان على وضع مجموعة كبيرة من الأقمار الاصطناعية بلغت في آخر تطوير لها، خمسة وثلاثين قمراً، في مدارات مختلفة حول الكرة الأرضية، بحيث تتقاطع حركات تلك الأقمار مع بعضها كل ثانية لتغطي كل نقطة على الأرض، ويكفي أن تتقاطع معلومات ثلاثة أقمار لتحديد الموقع المطلوب بدقة متناهية. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة تم رفع الغطاء من قبل الولايات المتحدة عن أنظمة الأقمار الاصطناعية، وظهر عصر الاتصالات، وتوسعت التطبيقات المدنية لنظام تحديد المواقع، لاسيما الأمريكي «جي بي أس» بشكل كبير حتى أصبح لا غنى عن هذا النظام في الحياة اليومية للمدنيين حول العالم.

 وقد قامت شركة غوغل بوضع تطبيق نظام تحديد المواقع ضمن تطبيقاتها المستخدمة في أجهزة الحواسيب والهواتف المحمولة، وبات من الممكن لأي مستخدم لتلك الأجهزة أن يصل إلى المنطقة التي يريدها في أي مكان في العالم من غير سؤال أو عناء؛ إذ يكفي تشغيل نظام تحديد المواقع، وإعطائه المعلومة ليقوم بإيصال المستخدم إلى هدفه بدقة متناهية. وعلى الرغم من أن نظام تحديد المواقع فيه فوائد كثيرة للبشرية، لكن له جوانب سلبية تتمثل في عمليات التجسس التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات الأمريكية على أي شخص تريده، ويمكنها أن تعرف أين موقعه، لاعتقاله، أو ملاحقته. وهذا ما أنهى مفهوم الخصوصية؛ حيث لم يعد أي شخص في مأمن من التجسس عليه عبر هاتفه أو حاسوبه. وبذلك يؤدي إلى اختلال خطِر، ويقلص من فضاء الحرية، ويزدري بمفهوم حقوق الإنسان.

 إن هذا التنافس المحتدم بين القوتين العظميين ينذر بالمزيد من الانقسام بين محورين، غربي وشرقي، ويعيد العالم إلى أجواء الحرب الباردة، وتشكل عالم منقسم بين الشرق والغرب متسلحاً بأحدث التقنيات التي امتلكها الإنسان، وخصوصاً ما يتعلق منها بالاتصالات، وأنظمة تحديد المواقع التي صارت موضع شك وريبة من قبل دول مثل روسيا والصين اللتين تريان أن تلك التقنيات هي بمثابة سيف مسلط عليها، وبالفعل فقد تم قتل مجموعة كبيرة من الجنود الروس من قبل الجيش الأوكراني، بسبب استخدامهم لهواتف فيها نظام تحديد المواقع «جي بي أس». وآخر عمليات التجسس خبر عملية تسريب الوثائق السرية الأمريكية المسربة، واقتران الوثائق بالحرب الروسية الأوكرانية.

من المتوقع أن تقوم روسيا والصين والدول الأخرى المؤيدة لهما بالابتعاد عن أنظمة الاتصالات وتحديد المواقع الأمريكية، وأن يتم الاستعاضة عنها بأنظمة أخرى تعتمد نظام «غلوناس» الروسي أو نظام «بايدو» الذي نجحت الصين أخيراً في تطويره وإتمامه، وأضحت بالتالي من القوى العظمى التي بيدها مفاتيح العالم. ومن ثم فإننا أمام تحدٍ من نوع جديد؛ إذ يطل علينا صراع القطبين من جديد لا بأسلحته التقليدية القديمة، التي خلفت دماراً هائلاً، فقط، لكن بأسلحة أشد فتكاً، بسبب تلك الثورة التكنولوجية الهائلة خاصة في مجال الاتصالات والفضاء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/394ktk9p

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"