ملامح النهضة العربية الثانية

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

لطالما روى رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص بابتسامته المعبّرة أن: «الله سبحانه عندما خلق لبنان، راح معظم سكّان الجزيرة العربية والمحيط يشكون القهر الذي تختزنه الحياة الصحراوية؛ حيث الشمس الحارقة وشظف العيش والجفاف وقلة المطر. تعالت الأصوات والاحتجاجات وهم يتطلّعون بشوق ومحبّة نحو الشمال؛ حيث لبنان الصغير بجباله المكسوة بالثلوج وسهوله الخضراء وفصوله الأربعة وكأنه الجنة. تراكمت الشكاوى وعظمت مشاعر التذمر فجاء الحل أن: خلق الله اللبنانيين في لبنان».

 ظريفة الرواية، لكنها تُدمي اليقين لأن أشقاءنا يحبون لبنان أكثر منا وقد أصابنا الطاعون الوطني الذي جعل لبنان صحاري طائفية قاحلة تمتد نحوها العقول والأيادي بالمبادرات والمساعدات والنصائح للخلاص من تواريخ الخوف والحروب والانقسام، في زمن تحدق عين الدنيا فيه إلى فوق نحو الإمارات المضيئة أبراجاً تنسج شبكات تواصلٍ حضارية في العلاقات الإقليمية والدولية تجذب براعة العالم وصداقته وتأتي به ملهوفاً إلى الديار.

 نحن نشهد اليوم بالآذان والعيون كيف تُفتح القصور الدولية على مصراعيها أمام قادة العرب تتقدمهم الجرأة والحرية بأعقاب عقد «الربيع العربي» البائس بعدما هز الجذور واندثر للبحث عن عصر النهضة العربية الثانية. نعم. قادة من شباب المنطقة العربية وكأنهم أبناء العولمة؛ بل أسيادها يشقون دروباً تجذب أجيال لبناننا والعرب والعالم، وهم يتطلّعون بحكمة يمتطون المستقبل بثقة نحو الجهات الأربع؛ بل النواحي الست أعني الكرتين الأرضية والفضائية.

 لن أخوض كثيراً في مسرى تدفقات الحبر العربي في هذا المجال، بقدر ما تحدوني الرغبة الإسقاطية بالقطيعة القوية مع العقد الماضي الذي تفجّر في معظم بلادنا وعواصم العالم ومدنه. كانت ملايين المتظاهرين تتقدمهم الصبايا والنساء، يخرجون رافضين بقوّة واضحة لحكوماتهم كما للمنظمات الدولية ولمعظم القوانين والأنظمة القديمة المُقعدة والعظمى في العالم. نزلوا إلى الساحات العامة وأربكوا الحياة، واكتظّت السجون بالآلاف، وجابت ملايين الشعارات والاعتراضات واللوبيات والتجمّعات و«الهاشتاغات» وجذبت العيون والآذان في الدنيا. تمكّن المتظاهرون من إرباك أنظمة الدول العظمى وتشاوف زعمائها وغطرستهم. قلبوا الحكومات ودفعوا المسؤولين إلى السجون أو الهرب وتقديم الاستقالات ووضع السرقات والثروات فوق الطاولات. هكذا نجح الطلاب والشباب المتظاهرون من تغيير وجه «الجيوبوليتيكيا»، بما دفن العديد من الأحزاب والأفكار وخلع الزعامات التقليدية لمصلحة الجديدة والحديثة التي أفرزتها التجمّعات المدنية والقوى الشبابية الناهضة التي بدت وتبدو متشابهة، بعدما راجت «جرثومة» رائعة تنقل الحرية والتغيير والإقرار.

 كان يمكن رصد الفقراء والشباب والطلاب والعمال والأقليات المسحوقة والنقابيين والمهاجرين والنازحين واللاجئين في عواصم أمريكا والغرب الأوروبي عبر شعارات تدين السلوك العنصري والتمييز وطلب المساواة كحق دولي وإنساني وسياسي. بالمقابل، تعاظم ويتعاظم الجاذب القومي الذي راح يبعث السلوك الفاشي ويراكمه في حنين مكبوت إلى النازية الجديدة في أوروبا وأمريكا حيال دول الشرق استسهالاً لإراقة الدماء ومصادرة الثروات.

 يجب التذكير هنا بافتتاح العقد الثاني من الألفية الثالثة بأضخم التظاهرات في أمريكا في عهد باراك أوباما بولايتيه المنتهيتين بانتخاب دونالد ترامب الرئيس الأكثر انفعالية وجدلية وتبخيساً عنصرياً للآخرين وللدول الشرق أوسطية الغنية في تاريخ أمريكا. لم يكن صعباً إلصاق أمريكا بالصفات التي ذبلت فيها العلاقات الدولية المحكومة بالشفط والكسب بما عزز التنافسات والتشنجات الدولية في ال2008 مع أسوأ أزمة مالية ظهرت في القطاع العقاري وعمّت العالم كلّه وكأنها نوع آخر من «الفيروس» الاقتصادي والمالي المرعب المشابه لسرعة انتشار كورونا في ما بعد. كانت المدخرات الشعبية في المصارف قد أسهمت في إنقاذ الرساميل الخاصة، لكن الشعوب المستيقظة بالمقابل، تألمت كثيراً ومرضت كثيراً وماتت كثيراً وحقدت كثيراً بعدما هبطت الرواتب، وارتفعت الضرائب وتفاقمت الأسعار والبطالة، وتدنّت المصاريف، وتراكمت كتل الفقراء والمعدومين والجائعين الذين أقاموا في خواء ساحات العواصم العالمية وزوايا شوارعها وحدائقها، بعدما شل الاقتصاد، بأشكال ونتائج وتداعيات مختلفة، لكنها مخيفة.

 جاء انهيار اليونان ثقيلاً ليخيم على أوروبا والعالم، وصرخ الشباب في ساحات الدنيا: «لسنا سجناء المثلّث الأسود: الحكومات وأصحاب المصارف والتجار»، وهذا ما أقلق العرب ويضجّ به لبنان الأصفر اليوم حفراً وتنزيلاً. هكذا راحت الدول تتمايل فوق أرجوحة بين الأبواب المغلقة والجذور المتحجّرة والنوافذ المشرّعة نحو الأرض والفضاء في زمن ملّ الوجه الغبي لسياسات العظمة والعولمة بكونها سياسات قطع الطرقات والأعناق أمام يقظة الشعوب والحكام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yeysjmjc

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"