معركة تسجن شعباً وتقتل وطناً

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

وكأن قدر هذه الأمة ألا يتمكن منها الأمل، ويسير بها قدماً إلى المستقبل، فكلما لاح في الأفق أمل في إنهاء زمن الصراع والفوضى في ربوع جغرافيتها والتفرغ للبناء والنهوض والتنمية، سرعان ما تشتعل في بقعة، لتُجهِض الأمل الوليد، وتؤكد أنها أمة مكتوب عليها أن تنتقل من كابوس إلى آخر، ومقدر أن يمتلئ أرشيفها بصور الاحتراب ووثائق التآمر، وأن يُكتَب تاريخها بحبر من دم أبنائها الذين يسقطون قتلى في شوارعها، بحثاً عن أمل لا يأتي، أو مقاومة لكابوس لا يزول.

بزغ الأمل في حياتنا أياماً معدودات، ونحن نتابع بشائر عودة سوريا إلى الحضن العربي، وننتظر أن ينعكس حصاد الاتفاق السعودي- الإيراني إيجابياً على لبنان والعراق وسوريا واليمن، وتنتشر في وسائل إعلامنا أخبار التوافق اليمني اليمني، لتأتي أنباء اشتعال السودان اقتتالاً بين الجيش و«قوات الدعم السريع» لتؤكد أنه بمجرد إطفاء نيران الفتنة في منطقة حتى تندلع في أخرى، وكأننا أمة مكتوب عليها ألا تنعم بالأمن والسلام.

ما يحدث في السودان ليس مفاجئاً، فهذا الوطن الذي ينعم بشعب مثقف وبأرض خصبة ونهر خالد ومعادن وفيرة وبالكثير من الخيرات، مصاب بالتفتت والتمزق، وانقلبت نعمه نقمة، وخصوبة أرضه وخيراته جعلته هدفاً للطامعين من الخارج وأذنابهم من الداخل الذين ارتضوا أن يكونوا مجرد أدوات تنقله من أزمة إلى أزمة، ليتحول تاريخه إلى سلسلة من الأزمات.

ورغم أن الحرب التي تغطي أخبارها الشاشات اليوم هي الخامسة منذ الاستقلال، إلا أنها الأكثر خطورة، فالحروب السابقة كانت بعيدة عن العاصمة وفي الأطراف، بينما هي اليوم في العاصمة، أي في القلب، وعندما يصيب الداء القلب فإنه يشل الجسم كله وقد يؤدي إلى وفاته، إن لم يتم إسعافه ومعالجته وإعادته للحياة.

الحرب اليوم بين جيشين يقودهما شريكا السلطة، رئيس مجلس السيادة ونائبه، ويراقب المعركة عن قرب 6 جيوش أو جماعات مسلحة أخرى داخل الدولة. فالوطن الواحد لا ينبغي أن يكون له سوى جيش واحد، حتى يتجنب أبناؤه رفع السلاح على بعضهم، وفي هذه الحالة لا يكون البقاء للأقوى كما هو معروف، بل الخراب للديار والفناء يلاحق الجميع، والكل سيخرج خاسراً، وفي حال استمرت المعركة حتى ينتصر طرف على الآخر، فإن الطرف الرابح لن يجد وطناً يحكمه، بعد أن تسود الكراهية ويعم الحقد بين مختلف الفئات الشعبية والعسكرية.

السودان سلة غذاء الدنيا اليوم خارج الخدمة، والخرطوم، المدينة التي تبعث الحياة في باقي المدن السودانية أصبحت بلا حياة، شوارعها خالية، وسماؤها قاتمة من دخان المعركة، عدد من المستشفيات خارج الخدمة، أجهزة الدولة معطلة، المدارس متوقفة، طلاب جامعات محاصرون داخل القاعات، الأهالي محاصرون داخل المنازل، بلا غذاء ولا دواء ولا حياة، من يجد وسيلة للهروب من منزله يلوذ بالفرار، لكن الفارين بحثاً عن الأمان لن يجدوه بعد أن امتدت المعركة إلى مدن عدة، وأصبح الريف أيضاً مهدداً.

أسوأ أنواع الحروب هي تلك التي تكون بين الأشقاء، والحرب في السودان هي بين الأشقاء فعلاً لا مجازاً، وهو ما يؤكده ما نشرته إحدى الصحف عن شاب سوداني يصرخ وجعاً ويستغيث، لأن شقيقيه يتواجهان في المعركة، أحدهما ينتمي إلى الجيش، والثاني إلى «قوات الدعم»؛ يشعر بأنه وحده من يدفع ثمن الحرب، بغض النظر عمن يخسرها أو يكسبها من الطرفين، فهو في كل الأحوال قد يفقد أحد شقيقيه، أحدهما أنجبت زوجته له ابناً وهو لا يدري، وقد أرسل الشقيق المستغيث رسالة لشقيقه الذي لم ينجب قال فيها «إذا وقع شقيقك أسيراً في يدك، أو وقعت أسيراً في يده، فأخبره بخبر إنجابه، وأسأل الله أن يحفظكما في هذه المعركة التي أرى أن الخاسر الوحيد فيها أنا»!

والحقيقة أنه ليس وحده الخاسر، بل كل سوداني وكل عربي خاسر في معركة تسجن شعباً وتقتل وطناً وتشوه أمةً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y4mm7jym

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"