الحريـة والنـظام في القيـم

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

لجدليّة الفرد والمجتمع وما يقع بينهما من تجاذبٍ أو تجافٍ وأحياناً، من تناقضٍ (في علاقة كلٍّ منهما بالقيم على نحوٍ خاصّ)، تجلّياتٌ عدّة وعناوين مختلفة تَقْبَل جميعُها التّعبيرَ عن نفسها في مشتَرك جامعٍ هو: جدليّة الحريّة والنّظام. والجدليّةُ هذه تنطوي على فاعليّة ديناميّتيْن متقابلتيْن تتولّد منها كلّ تلك الظّواهر المختلفة التي توحي وكأنّها تهدّد النّظام الاجتماعيّ بالانفجار فيما هي، بالذّات، جهازُ محرِّكه الذي ينهض بدور تشغيله في العاديِّ من الأحوال، ولكنّه أيضاً الجهاز الذي قد يتعطّل نظامُه أو ينتقض، وحينها قد تُفْلِت من قبضته تلك الدّيناميّات فلا يُعْلَم إلى أين يمكن أن تُفْضي بها تجاذباتها!

   في نسيج كلّ منظومةٍ من القيم، في أيّ مجتمعٍ من المجتمعات، قدْرٌ مّا من تعقُّد التّشابُك بين خيوط الفاعلين داخل هذه المنظومات يحتاج إلى فكِّ المعقود منه لتَجْري التّفاعلات فيها على نحو من السّلاسة والانسيابيّة. حين تنكفئ منظومة القيم على نفسها، محافظةً على مجرى علاقاتها الاعتياديّ، ومتحصِّنةً ضدّ ما قد يداهمها من عناصر برّانيّة عنها، لا تُلْحظ فيها - حينذاك - أَمارات اختلال في التّوازن والاشتغال، لأنّ الفاعلين فيها (الأفراد، الجماعة) لم يشهدوا في علاقتهم على أيّ اصطدامٍ يضع المنظومة في حالٍ من الاضطراب. إنّها، في هذه الحال، تعيش وضعيّة إعادة إنتاج محصّلة القيم الموروثة داخلها فتتغذّى ممّا تعوّدت أن تتغذّى منه من موارد.

  أمّا حين تنفتح منظومةُ القيم على خارجها، إمّا انفتاحاً كليّاً - وهذا يحدث في النّادر من الأحوال - أو انفتاحاً جزئيّاً وموضعيّاً - وهو الأغلب - تتلقّى من خارجها ذاك ومن موارده ما لا يُبْقيها على ما كانَتْهُ ودرجَت عليه، حتّى وإن لم يقع في بنيانها تغيُّرٌ كبير ملموس. في مثل هذه الحال، قد تُلْحَظ فيها علائمُ تبدُّل وإنْ بطيئاً وزهيد الكلفة على توازنها، لأنّ جديداً مّا جَدّ في علاقات الفاعلين فيها، وفي صلة كلٍّ منهم بالقيم: ما كان منها موجوداً وما استجدّ على المنظومة. لا تتوقّف، هنا، آليةُ إعادة إنتاج القيم نتيجة هذه الأحوال الطّارئة على علاقات المنظومة، بل هي تستمرّ ولكن مع تكرُّر حوادث الاصطدام بين القيم الموروثة والقيم الوافدة؛ فلقد دخل على بنية القيم من العناصر الجديدة ما ليس منها فأرْبَك نظامَ الاشتغالِ إلى حدٍّ، وليس يسيراً دائماً - وفي مثل هذه الحال - أن تستوعب المنظومة ما يَفِد عليها من خارجها وتنجح في توطينه.

  ما من شكٍّ في أنّ تفاعلات نظام القيم مع الوافد عليه تتفاوت بتفاوُت شدّة تأثير ذلك الوافد ومصدره. في كلّ الأحوال يتجسّد ذلك الوافد في فاعلٍ من المنظومة: الفرد/الأفراد؛ إذ هو من يحمل القيمة الجديدة الوافدة من خارج فيعبّر عنها في المسلك والتّصرُّف والعلاقات، ويضعها في مقابل نظامٍ قيميّ قائم لا يقبلها. غير أنّ القيم الأخلاقيّة الوافدة، التي يحملها الأفراد، ليست من وزنٍ وحجْمٍ واحد، والذين ينتحلونها لأنفسهم ليسوا من الطّينة عينِها؛ فلقد تكون شديدة التّضارُب مع الموروث وشديدة الاستفزاز له وبالتّالي، تفضي إلى صدامٍ شديد متناسبٍ مع شدّة وطأتها؛ أو لعلّها تكون أقلّ استثارةً لمنظومة القيم ولو أنّها دخيلة عليها، فيسْهُل على المنظومة، حينها، استيعابها فيها. في كلّ حال، يتواجه في ساح القيم منطقان متقابلان في الغالب: منطق الحريّة ومنطق النّظام، منطق الإباحة ومنطق التّقييد، ومن المفيد تماماً أن يُعْثَر على المعادلة المناسبة لفكّ الاشتباك بينهما منعاً للصّدام الاجتماعيّ، وصوْناً لاستقرارٍ لا يكون على حساب انفتاح المجتمع وانتهاله قيماً جديدة تتغذّى منها منظومةُ قيمه.

  يمكننا أن نتفهّم المخاوف العامّة من أثر التّحوّلات العالميّة الجارية على منظومات القيم في المجتمعات ولدى الشّعوب المعرَّضة لضغط تلك التّحوّلات، بل من واجبنا أن نأخذها في الحسبان لا أن نكتفي بتفهُّمها والتماس العذر لها فحسب؛ فالنّظام - نظام القيم - يدافع عن نفسه مدافعة مشروعة ضدّ ما قد يَدْهمه من أخطار. ولكن، في المقابل، مَن يجحد حقّ النّاس والمجتمعات في أن تغذّي مخزونها الاستراتيجيّ من القيم الإنسانيّة العليا، وحريّتها في أن تنتصر لقيمٍ جديدة أعلى شأناً على حساب أخرى موروثة تُخْلَع عليها أرديةُ التّبجيل لمجرّد أنّها منحدرةٌ من الآباء والأجداد ما من مهْربٍ، إذن، من خيار البحث عن معادلةٍ متوازنة لا تضحّي بأحد المطلبين المشروعين: صوْن استقرار نظام القيم وفي الوقت عينه، حريّة تنميته وتجديده.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3k87uxta

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"