السودان.. وهم الانتصار وخارطة الدم

00:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

كان سقوط نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، مقدمة سياسية لحدوث تحوّل سياسي ديمقراطي، ينهي عقوداً من الحكم العسكري الفاشل، على يد ثورة ديسمبر/كانون الأول 2019، التي استفادت من دروس سابقة عرفها العالم العربي في العقود الأخيرة، فبقيت محافظة على طابعها السلمي، ولم تنجر للسلاح، وشكّلت نواة لقيادة مدنية/ سياسية، تمثّلها في التفاوض مع الجيش، لكن هذه المقدمة السياسية، راحت تضيع معانيها وسط تناقضات وصراعات الأطراف السودانية العديدة، وتحديداً داخل التشكيلات العسكرية، وخلال السنوات التي تلت الثورة، بدت محاولات الوصول إلى صيغة سياسية توافقية بين الأطراف الرئيسية أمراً صعباً؛ بل تظهر اليوم أنها كانت واحدة من المستحيلات السودانية الكثيرة.

 المعطيات الديموغرافية والجغرافية للسودان، تجعل منه نظرياً بلداً مثالياً للتنمية، فعدد سكانه نحو 45 مليون نسمة، ومساحته نحو مليوني كيلومتر مربع، وعلى الرغم من أن الصحراء تشكّل نصف مساحته، فإنه يحوي مصادر مياه متعددة، من أهمها نهر النيل، وهطولات مائية وفيرة في جنوب السودان ووسطه، لكن مع إدارة سيئة لهذه المصادر، وغياب الاهتمام الحكومي المديد بالاستثمار في قطاع الزراعة، وبالتالي، فإن السودان الذي كان يعرّف بأنه «سلة غذاء العالم»، بقي على الدوام بلداً من أفقر البلدان العربية والإفريقية، ولم تتحوّل فيه الموارد الطبيعية والبشرية إلى منجزات تنموية؛ بل على العكس من ذلك تماماً، فمنذ استقلال السودان عام 1956، كانت السلطات الحاكمة غير مبالية بتطوير ممكناته وثرواته، وإرساء تنمية مستدامة.

 لم يعرف السودان حكماً مدنياً لفترة طويلة، فقد جاء أول انقضاض عسكري على الحكم بعد عامين من الاستقلال، ودخل السودان منذ عام 1958 تحت جناح الحكم العسكري، تتخلله فترات حكم مدني قصيرة، تبدو بمثابة الهدنة بين حروب العسكر المتعددة، في ظل غياب أي إمكانية فعلية للسلطة المركزية كي تبسط سيادتها على كامل الجغرافيا الوطنية، ما جعل من السيادة السودانية موزعة على الدوام بين عدد من الجيوش، التي تحكم ولايات بعيدة عن العاصمة، وتتمتع بشكل من أشكال الاستقلالية المالية والسياسية، التي تجعل منها دولة داخل الدولة.

 وفي واحدة من مفارقات هذا البلد، أنه عاش حالة من التداخل بين نمو الأحزاب السياسية، القومية واليسارية والإسلامية، وبين استمرار الحالة الإثنية والقبلية والجهوية، المفرطة في حدة استقطابها، ولعبها دوراً رئيسياً في النزاعات العسكرية، ما يجعل اللوحة السودانية مفرطة في التركيب والتعقيد، وبعيدة كل البعد عن منطق بناء الدولة، الذي يقوم على صهر الناس في إطار الوطنية والمواطنة.

 الحروب البينية/ الداخلية السابقة، أفضت إحداها إلى استقلال الجنوب عن الشمال، وقيام دولة مستقلة فيه، وفي حرب ثانية، تحوّلت منطقة دارفور إلى واحدة من أكثر الأماكن دموية في العالم؛ حيث قتل فيها مئات الآلاف، وتم تشريد أعداد كبيرة من السكان، وخلال العقود الماضية، تكاثرت الجيوش المحلية في البلاد، حيث تتقاسم السيادة الوطنية مع الجيش، لكن بعضها يتفوّق عليه في عدد من المزايا العسكرية، إضافة إلى التركيبة الإثنية والجهوية المتجانسة، ووجود مصادر تمويل مستقلة، وإدارة مناطق كاملة غنية بالموارد.

 الحرب الحالية، تظهر أن التباينات والتناقضات السياسية بين المدنيين والجيش، ما هي إلا مجرد تفصيلات صغيرة في لوحة التناقضات السودانية، خصوصاً في دائرة القوى العسكرية، التي اضطرت بعد سقوط حكم البشير إلى ضبط الاختلاف على المصالح والنفوذ فيما بينها، لكن هذا الضبط للصراع لم يكن من الممكن أن يستمر طويلاً، وقد مرت العلاقة بتوترات عديدة، لم تفلح الوساطة الأممية في إقناع الطرفين، إضافة إلى قوى التغيير، بالتوافق على خارطة طريق، وتجنب الصدام، الذي تقول كل المعطيات إنه سيكون صداماً مريراً لكل الأطراف، وللمجتمع بالدرجة الأولى.

لا يعدم الطرفان المتحاربان اليوم الإمكانيات العسكرية التي توحي لكل منهما بإمكانية الانتصار على الآخر، لكن فكرة الانتصار في دولة مثل السودان تبدو وهماً مستقراً ومستمراً في أذهان العسكر، فنظراً لتاريخ مديد من الصراعات العسكرية في هذا البلد، فإن التكاليف البشرية من قتل وتشريد ستكون كارثية، قبل أن يهدأ صوت السلاح، وغالباً فإن حروب هذا البلد تستمر لسنوات طوال، مع احتمالات بحدوث تقسيم أو انفصال داخل الدولة نفسها.

 الصورة المشرقة التي رسمتها الثورة السودانية، والتي أعطت الأمل للسودانيين بإمكانية فتح صفحة جديدة، والانتقال من دولة الغلبة إلى دولة المواطنة والتشاركية، تتلاشى اليوم بشكل نهائي، وكأن قدر السودان أن يبقى خارطة من الدم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/krh95ark

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"