فلسفة الإدارة وأخلاقيات العمل السياسي

00:45 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان

كما للينابيع العذبة التي تحتاج إلى مخزونات المياه الجوفية لتغذي جريانها المتدفق؛ فإن للإدارة مخزونات تنبعث منها الأفكار لتبلور توجيهات أو قرارات ينفذها المعنيون والعاملون لتحقيق الأهداف المرسومة. والإدارة قيادة وسياسة، وهي عقل واستشراف وتنور وإدراك ورؤية، وبطبيعة الحال؛ فإنها تنظيم قبل كل شيء.

 ومن المتعارف عليه في علم السياسة؛ أن فلسفة القيادة ترتكز على مبادئ أو على عقيدة أو على منطلقات تهدف إلى تحقيق النفع العام وإلى التوظيف الأمثل للمعطيات المتوفرة، وإلى الوضوح، وللأداء العالي الجودة. والقيادة تحتاج إلى تحصيل الثقة من البيئة المحيطة، على اعتبار أن الإكراه بغير حق، هو رذيلة موصوفة، والعدل أساس الملك على إطلاقه، سواء كان ملكاً عينياً أو ملكاً فكرياً أو استحواذاً لصلاحيات مشروعة.

 يمكن للعمل السياسي أن يستند إلى مقاربات عقائدية مختلفة، منها توجهات فلسفية تنطلق من الإيمان بالإدارة الديمقراطية أو التشاورية، ومنها توجهات فلسفية تعتمد على الأوتوقراطية، أو على الاستبداد. والأوتوقراطية الفردية قد تكون فاضلة إذا ما استندت إلى منطلقات إنسانية عادلة ومتجردة، وقد تكون جنوحاً غير محمود إذا ما اعتمدت على الأهواء والغرائز، وإذا ابتعدت عن قواعد الأخلاق العامة التي تحترم القيم الروحانية وحقوق الإنسان.

 عادة ما توصف السياسية بأنها لعبة، ودرجت العادة عند بعضهم بتجريدها من الأخلاق والنبالة والعطف. لكن السياسة في جوهرها الأصيل؛ مهمة شريفة، وهي فن قيادة الناس ورعاية شؤون العامة بتبصر وحكمة وشجاعة، ولا يمكن لمصالح العامة أن تسير من دون مدبر، تكون مهمته الارتقاء من الخاص إلى العام، بمعنى أن يتجرّد من مصالحة الخاصة، ويترفع عن دوافعه النرجسية الصغيرة، ويكون على معرفة دقيقة بمصلحة العامة من الناس، ليتمكن من إدراك سُبل خدمة هؤلاء، ذلك ما درجت عليه خصائص حياة الجماعة منذ البدايات؛ بحيث قال أحد كبار الفلاسفة العلماء: «لا بد للأمة من أمير، وهو حاجة ملحة إلى إدارة شؤون العامة». والأمير هنا قد يكون فرداً عاقلاً بذاته، وقد يكون إدارة جامعة منظمة، أو مؤسسة عصرية تحكمها القوانين الوضعية.

 التجارب الواسعة التي مرّت على البشرية منذ القِدم؛ أغنت العلوم السياسية والإدارية الحديثة. وعلى الرغم من الشوائب التي دمغت العمل العام، فقد كانت الخلاصات المُنتخبة من التجارب؛ كافية لرسم صورة واضحة عن الصالح وعن الطالح منها، على الرغم من أن التعددية الفكرية تجنح نحو اعتماد النسبية في تحديد كمية النجاح، وفي تحديد كمية الفشل، على اعتبار أن القاعدة العلمية تلحظ دائماً وجهاً آخر للصفحة، قد تتبين خلفيات كلماتها الناصعة والواضحة خربشات تُحدث تشويهاً في بياض هذا الوجه الآخر.

 أعتى الدكتاتوريات التي مرّت عبر التاريخ كانت تحمل في زواياها المُعتمة بعض البياض ولو شاحباً، لكن ذلك لا يعطيها جواز مرور إلى الحاضنة التي تحفظ الود والثناء لتجارب الحكم التي استندت إلى فلسفة الحق والعدل والمساواة والفضيلة. ولو كان لبعض هذه التجارب إخفاقات لم تتمكن من تجاوزها، أو أنها قد قصّرت في إكمال جدران البناء إلى مراتبها الأكثر ارتفاعاً؛ فعلى الدوام كان للإدارة الرشيدة معوقات، وكان للأخلاق السياسية ثمناً لا بد من دفعه كي لا يُخدش الحياء العام بالمكروهات والشوائب.

 الابتكارات العلمية المُتقدمة التي أغنت البشرية بتكنولوجيا مدهشة وبمعلوماتية رقمية واسعة؛ هي ذاتها تُثير مخاوف من الوصول إلى وضعية تنتج نقيضاً قد يمس ببعض جوانب الحياة البشرية، ويبعدها عن الخلفيات الفلسفية التي تحتكم إلى الأخلاق الآدمية التي يحملها العنصر البشري من دون غيره، بصرف النظر عن مدى نجابته أو دُنوه. وقد بدأت ملامح عصر الإنسان الآلي تظهر في غير مكان، وهو يتولى القيام ببعض المهام التي يقوم بها الإنسان الطبيعي، ومن دون إذية، أو من دون الخلفيات أو الميثولوجيات التي تدفع الإنسان الطبيعي نحو محاباة اتجاه أحدهم أو نحو الضغينة تجاه آخر. لكن الاعتراف بمدى تطور الآلة؛ لا يمكن أن يدفعنا إلى اعتبار «المادية التاريخية» - بمفهومها العصري وليس بمفهومها الماركسي – حتمية فيها جواب عن كل التساؤلات المطروحة أمام البشرية.

 إذا تحوّلت الآلة إلى إنسان صناعي، أو إذا تحوّل الإنسان إلى ما يشبه الآلة؛ نكون أمام معضلة جديدة قد تظلم أجيالاً، وقد تنصف أجيالاً أخرى، وقد تدخلنا بنفق طويل نفتقد فيه إلى الرؤية الواضحة على مدى مسافات بعيدة. أما إذا اعتمدنا فلسفة أخلاقية في القيادة والإدارة، نكون أمام سياسة إنسانية تحفظ كرامة الناس ومصالحهم، وتستفيد من التقدم التقني إلى أبعد الحدود.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4epdav34

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"