الغموض الأمريكي لم يعد مجدياً

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عبدالله أحمد آل علي *

يقول زيبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق في عهد الرئيس جيمي كارتر، إن استراتيجية الغموض هي وسيلة فعالة للسياسة الخارجية الأمريكية لتحقيق مصالحها الوطنية، وتجنب التصادم المباشر مع الدول الأخرى. وكانت هذه العقيدة كسياسة محددة في الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة منذ أواخر الأربعينات حتى أوائل التسعينات.

 هذا السياق من الغموض الاستراتيجي في منطقة الخليج العربي، استطال إلى فترة ما بعد الثورة الإيرانية عام 1979، والحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، إذ مارس الحليف الاستراتيجي هذا السلوك الرمادي لحماية مصالحه ومصالح حلفائه بحسب رؤيته الأمنية، وتعزيز الاستقرار الإقليمي. هذا التوجه استمر، بشكل أو بآخر، حتى الألفية الجديدة.

 وتمخض عن هذا الانفراد في الهيمنة العالمية للولايات المتحدة على الإقليم العربي والعالم، لإدارة مسرح الصراعات، بأزمات مفتوحة وتصدّعات مهينة للكيانات العربية، خاصة في منطقة الخليج والشرق ألأوسط بعمومه، حيث بدأ من العراق: بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وعملت الولايات المتحدة على دعم فصيل بحكومة جديدة. ومع ذلك، تباينت السياسات الأمريكية تجاه الميليشيات المدعومة من إيران، والمجموعات الكردية، ما أدى إلى تصاعد التوترات وانهيار تام للنظام السياسي والاجتماعي في بنية نظام الدولة في العراق.

 وخلال ما يسمى «الربيع العربي» التي بدأت في أواخر عام 2010، واستمرت لعدة سنوات، مارست الولايات المتحدة سياسة «الغموض الاستراتيجي» نتيجة لمحاولتها التوفيق بين مصالحها المتناقضة، والتعامل مع التحديات المعقدة. هذه الممارسة كانت تشمل مراعاة مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية حسب ماتعتقده.

 حيث قامت بدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتأقلم مع التغيرات السريعة، وتوازن العلاقات الإقليمية. ورغم أن هذه الاستراتيجية حققت نجاحات في بعض الأوقات، فقد فشلت في مجالات أخرى، وتسببت في تأجيج التوترات، وتعقيد العلاقات مع حلفائها في المنطقة العربية.

  كما لاحظنا إبّان الأزمة اليمنية، وحزم حلفائها في المنطقة، واتخاذهم قرار التدخل في مارس/ آذار 2015، أظهرت الولايات المتحدة دعماً محدوداً للتحالف الذي تقوده السعودية ضد جماعة الحوثيين المدعومة من إيران. ومع ذلك، تم التراجع عن بعض الدعم العسكري، وإبداء قلق بشأن الأوضاع الإنسانية، ما سلط الضوء على الغموض في موقف الولايات المتحدة الذي كان مكلفاً جداً من الناحيتين، الأمنية والاقتصادية، وبالتالي، أصبح الخروج من هذا المازق قراراً منفرداً للتحالف بسبب التردّد والغموض من جانب حليفهم.

 وإذا انتقلنا لملف الاتفاق النووي الإيراني، نلحظ الانسحاب الرمادي للولايات المتحدة من الاتفاق في عام 2018، حيث تباينت في موقفها بشأن إمكانية التفاوض على اتفاق جديد. هذا الغموض أثر في العلاقات مع الدول الأوروبية، ودفع إيران لتكثيف أنشطتها النووية.

 ومن أهم إرهاصات هذا الغموض المبرمج اقتناص الصين، المنافس الاقتصادي الشرس، الدخول الفاعل في المنطقة الدافئة، واستثماره لنقطة الضعف في هذه الاستراتيجية، واستطاعت أن تؤسس لمصالح اقتصادية راسخة مع الجمهورية الإيرانية، حيث بلغت الاستثمارات الصينية 400 مليار دولار في إيران على مدى ربع القرن المقبل، منها 280 مليار دولار موجهة لصناعة النفط والغاز، و120 مليار دولار ستستغل في شبكة الطرقات والسكك الحديدية والمطارات والتكنولوجيا.

 وهذا بلا شك يحقق المسار المرغوب لمبادرة طريق الحرير الذي تسعي الصين لتثبيت مسار في هذه المنطقة المحفزة لها.

 في المستقبل، من المتوقع أن تستمر الصين في تعزيز علاقاتها مع دول الخليج بما يتوافق مع مصالحها الوطنية والاقتصادية والسياسية. ومن المحتمل أن تظل منطقة الخليج ركيزة أساسية لاستراتيجية الصين الخارجية، خاصة في ما يتعلق بتأمين إمدادات الطاقة وتوسيع التجارة والاستثمارات وتعزيز التعاون السياسي والأمني.

 في المقابل، قد تجد دول الخليج فرصاً جديدة للتعاون مع الصين كشريك اقتصادي وسياسي مهم، وهذا قد يؤدي إلى تنويع العلاقات الخارجية لدول الخليج وتقليل اعتمادها على التحالفات التقليدية مع الدول الغربية.

  تجدر الإشارة إلى إن الصين في 3/4/2023 حققت اختراقاً إيجابياً لتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة بوساطة صينية فاعلة بين إيران والمملكة العربية السعودية، وأدارت هذه المبادرة ظهرها لكل ما هو غامض في المنطقة، لتعيد هندسة المصالح الاقتصادية والأمنية بين الأطراف الفاعلة في الإقليم على حساب الشريك الأمريكي المتردد بغموضة.

 لقد أيقنت دول المنطقة أن مسار الاستقرار والازدهار تحكمه قاعدة الفهم الناضج للمصالح المشتركة توفق في كل المحاور الاستراتيجية ذات البعد الأمني والاقتصادي، وإيمان بأدوار القطبية المتعددة ذات البعد التوافقي العالمي، كالصين وروسيا والهند.

* باحث في الشؤون الأمنية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc2bnvdw

عن الكاتب

باحث متخصص في القضايا الأمنية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"