فوضى العامية

00:15 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

هناك طوابير من القراء تقف أمام باب المكتبات تنتظر أن تفتح هذه الأخيرة لتحصل على الإصدار الأخير لكاتبها المفضل، أما نسبة القراء في العالم العربي فتصل إلى 100 % يتوزعون على مختلف حقول المعرفة، وحركة الترجمة مزدهرة؛ حيت يترجم العرب عن معظم لغات العالم، ولا تقتصر ترجماتهم على الآداب والفنون وحسب، لكنها تمتد إلى العلوم البحتة المتخصصة.

  ذلك تقرير خيالي أو صورة ساخرة لا علاقة لها بالواقع، لكنها ربما داعبت أحلام من قاموا بترجمة عدة أعمال إلى العامية مؤخراً، ومبررهم في ذلك أن الناس لا يقبلون على القراءة نظراً لصعوبة الفصحى، وأن العامية ستؤدي إلى انتشار القراءة ومن ثم زيادة المستوى المعرفي. هم لا يأخذون في الاعتبار أن معدلات القراءة باللغة العربية الفصحى مخجلة، وأن العامية محدودة الانتشار جغرافياً؛ بحيث يسأل المتابع داخل القطر العربي الواحد عن نوعية العامية المرشحة للترجمة، هل هي عامية العاصمة أم المدن أم القرى؟ والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هي الأسباب التي دفعت بعض الناشرين للترجمة إلى العامية؟

  في عشرينات القرن الماضي، أثيرت الدعوة إلى الكتابة بالعامية. ارتبط ذلك بتأسيس أحزاب وطنية تدعو إلى هوية قطرية في أكثر من بلد عربي، لم تكن فكرة الهوية العربية الجامعة واضحة كما انتشرت لاحقاً، والمفارقة أن المثقفين والسياسيين الذين حملوا لواء الكتابة بالعامية آنذاك كانوا يتميزون بفصاحة وخطابة نفتقد إليها الآن، ونادوا إلى دعوتهم وكتبوا عنها بالفصحى. وفي ستينات القرن الماضي، أثيرت معركة حول طرائق التعبير الأدبي، وكيف للأدب أن يعبر عن الواقع، ودعا البعض إلى كتابة الحوار في المسرح والرواية بالعامية، ومع ذلك سنلاحظ أن تلك الدعوة لم تلبث أن خبت وأن أصحابها كانوا ممن يمتلكون ناصية وأسرار اللغة الفصحى.

  تعود خطورة ترجمة بعض الأعمال إلى العامية الآن إلى أكثر من سبب، يأتي على رأسها مواقع التواصل الاجتماعي تلك التي خلقت لغة هجينة، لا نعرف إلى أية درجة تنتمي إلى العامية أو تتقاطع معها؛ إذ تكثر فيها الاختصارات والأخطاء الإملائية والكلمات الأجنبية، أي أن تلك المواقع تشكل خطراً داهماً ليس على الفصحى وحسب، إنما على العامية أيضاً، والترجمة إلى العامية ليست إلا محاولة لمجاراة جمهور هذه المواقع، وهو في الأصل جمهور لا يقرأ الكتب، لكنه يتجول ليقرأ عنواناً من هنا وملخصاً لخبر من هناك. سبب آخر يتمثل في مراجعة البعض لتلك الترجمات إذ اكتشف أحدهم في ترجمة ما أن حرف الجر «على» مكتوب «علا» مثلما يُكتب في مواقع التواصل، مع أن شكل هذا الحرف لا يختلف في العامية، أي أننا أمام استسهال واضح وانهيار لكل القواعد، حتى قواعد العامية نفسها.

  إن أية دعوة إلى العامية الآن لا تعبر عن أيديولوجيا كما شهدنا في الماضي؛ بحيث بالإمكان التحاور والجدال معها على نطاق واسع ومثمر، لكنها نتاج تراجع عميق يضرب في مختلف أرجاء الفكر العربي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4hjf3st2

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"