دعني يا جدي أركض في الدنيا

00:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

«لا تبني الديمقراطية نظاماً سياسياًَ مثالياً». هذا نموذج من تهديم الديمقراطية يلتقطه «مفكرون» لبنانيون من تحت غربال الفيلسوف الإغريقي أفلاطون الذي أعلن متعالياً فوق صروح جمهوريته المثالية أن الديمقراطية بين الأنظمة السيئة.

تحتاج المسألة نقاشاً في زمن ينطلق سالكاً سريعاً دروب الفكر التنويري والتطوير المعاصر فاتحاً العقول والإرادات على نقد فلسفات الحكم المتراكمة والمتقلبة طويلاً بين البذور والقشور، وبين الحداثة والتحديث، والتغيير والغير، لطمس فروق حضارتي الإنتاج والاستهلاك بين الأمم والشعوب.

يُغني هذا الانفتاح الواسع ميادين السياسات والإنجازات والشعوب المتنوعة الأحجام تمكيناً لنبش الأفكار التراثية الضاربة جذورها أبداً في الحضارات الأولى على عظمتها التاريخية والسياحية، من مصر الفرعونية وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام نزولاً نحو سد مأرب ورمزية دمغ ذاكراتنا أبداً بهجرة القبائل العربية نحو الشمال، وكأني أرى جدي الغساني الآن يُمسكني بيدي وافداً بي نحو لبنان «الديمقراطي» منذ ما قبل تدوين التاريخ.

دعني يا جدي أركض خلف «عولمة الأرض» لتتلاحم رمال الصحاري وشواطئها بالسهوب والأنهار بالمحيطات الكبرى والجزر الخضراء والشعوب الناهضة بما يتجاوز المكان تنافساً نحو الجدل والتحدي الحضاري لاحتضان المستقبل.

لماذا نقد الديمقراطية الرائجة توقاً إلى لبنان القديم؟

1- كي تزهر الحداثة في عقول الحكام والأحكام فلا تبقى الديمقراطية جسوراً هلامية بين الأحلام والحروب ومفرغة من مضامينها تتوارثها الأجيال. تقبع الديمقراطية في لبنان شكلية مائعة زائفة وعارية. لم تقم أساساً على أحزاب ومبادئ عابرة للطوائف والمذاهب والقبائل؛ بل تتسمّر على تراث مستورد من رجال الطوائف والإقطاع والرأسمال والميليشيات والخارج والعمالات. لا ولن يختر الناخب اللبناني الأفضل تمثيلاً لوطنه ومستقبله؛ بل لنفسه. كل نسمة لها زعيمها مختصراً وطنها وهو مخلّصها.

كان المسلمون يُطالبون بالمساواة ويعاند المسيحيون. لم يخطئوا وحسب، لكنهم ما ساووا. وكان ما كان وصار فعل كان لزجاً ألصق ماضيهم بحاضرهم والمستقبل. هكذا أدمنوا تجاوز الواقع والوقائع والدساتير مقتنعين بأن علّة الديمقراطية وليدة بنيانها أساساً على سقطتين:

أ- المساواة في الانتخابات وتنظيم الدولة بين أجهل الناس وأعقلهم. هذه التعادلية تحمل برأيهم الكثير من البلاهة؛ إذ ليس كل من ولد في الوطن هو نسمة. هناك فروق بين نسمة ونسمة. كيف؟

ب- الأكثرية والأقلية: جاهر الرئيس رفيق الحريري بالريادة في المجال رحمه الله، فقال: «أوقفنا تاريخ العد بين المسيحيين والمسلمين. نعم للمناصفة في مجلسي النواب والوزراء وفي وظائف الفئة الأولى وما يعادلها والكفاءات متوفّرة لدى الجميع». كانت الهدية رضية وسخية خصوصاً للمسيحيين. لكن.. يعود الكلام الصارخ أدراجه مشحوناً بألسنة رجال الدين وعبر مستنقعات التواصل الاجتماعي باعتبار الأكثرية العددية ونقيضها هي المستقبل الحق. لكن الحق الذي يُعرف ليُعلن بشدة، من جهة أخرى، لا يعرفه إلا أذكياء الأمة وعلماؤها ومفكروها وهم أقلية ولربما قلّة من مختلف المذاهب والطوائف وليسوا من طائفة واحدة. هذه المسألة مقدسة وطنياً منذ اتفاق الطائف الذي رذله أصحاب الفكر المستورد. هناك حجة أخرى «تنشاوف» بأن العقول البشرية يصعب؛ بل يستحيل جمعها؛ إذ قد يكون فرد أو حاكم على حق، بينما الأمة كلها على خطأ، وحتى البشرية كلها على أكثر من خطأ. فكيف نحكم؟

2- إن حكم الأكثرية في الدول الديمقراطية دوّار بمعنى دوري ولو تفاوت حكم الأطراف زمنياً شرط ألا يُصبح حكماً أكثرياً أبدياً لفئة واحدة عند اعتماد تعداد السكان، لأن الديمقراطية تذبل عندها وتموت.

صحيح أن النظام الديمقراطي ليس واحداً في العالم؛ إذ لكل بلد ديمقراطي نظامه المناسب يمكنه اعتماد العددية أساساً في الأمم المتجانسة، ويمكنه أيضاً تجاوزها وفقاً للمروجين للفيدرالية مستندين إلى دستور الولايات المتحدة وعددها خمسون يُنتخب لكل منها شيخان مهما كان عدد سكانها مع أن الولايات الصغرى تمثّل الأكثرية الساحقة، ومع ذلك لا يُنفّذ أو يمر قانون إلا بموافقة الأكثرية في مجلس الشيوخ ولا مجال للولايات الكبرى المطالبة بالتغيير.

3- يبقى اطمئنان المسيحيين وغيرهم من الطوائف ناقصاً ومُقلقاً وخصوصاً بعدما تجاوزا أعداد النازحين واللاجئين سكّان لبنان بما يقرّب بين اللبنانيين على تنوعهم وقد أقلقتهم جمهورية الخرائب. لن يعود المهاجرون إلى وطنهم وما رحلتي الصيف والشتاء سوى أشواق وتوفير مصاريف وتحديات طائفية وردود أفعال تصب ثروات في أحضان السياسيين والتجار، بينما المقيمون يحلمون بالهجرة.

أتساءل إن كان انهيار الشيوعية خيراً لدول الاتحاد السوفييتي وشر لدول الغرب الأخرى التي راحت تفقد توازنها في العالم؟

إن ما نطمح إليه هو التفاهم حول فلسفات التوازن الوطني والعربي وهو أساس مصيري لتجمعات البشر من القرى والمدن والدوائر الانتخابية إلى الأمم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/37ra59w3

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"