نحو حياد مختلف

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

جميل مطر

يوماً بعد يوم يتعزز الاحتمال بأن تزداد فرص نشأة تجمّع من دول أغلبها ينتمي إلى العالم النامي تبحث لنفسها، مجتمعة، عن موقع في خريطة توزيع جديد للقوى الدولية. وأغلب الظن أن الظروف الدولية الراهنة والمتوقعة تدفع هذه الدول نحو الأخذ بصيغة تقترب من صيغة الحياد الإيجابي، وعدم الانحياز التي تبنّتها، قبل نحو سبعين عاماً، مجموعة دول حديثة الاستقلال السياسي بهدف تحصين هذا الاستقلال والنأي بشعوبها عن صراع عقائدي، وعن براثن استعمار جديد.

 ووقفت عوامل بعينها وراء جهود ومساعي وأفكار تشكيل تجمع يضم دولاً بعينها، ويقترب بالشجن، أو بالتمني، من تجمّع دول الحياد الإيجابي في أوائل الخمسينات من القرن الماضي. وأحاول هنا، وإن بصعوبة، حصر بعض تفاصيل هذه المتغيرات، أو العوامل في فقرات موجزة تهدف أساساً إلى إلقاء الضوء عليها. أعرض من هذه المتغيرات والحوارات الدائرة بشأنها ما يلي:

*أولاً: اقتراب متزايد ومتصاعد من نهاية منظومة قواعد وهياكل وضوابط النظام الاقتصادي العالمي التي نظمتها وصاغتها اتفاقات «بريتون وودز» قرب نهاية الحرب العالمية الثانية. وتحت هذا العنوان تندرج تطورات، وقضايا بالغة الأهمية، إحداها، ولعلها أهمها على الإطلاق، بدايات تراجع خجول، ولكن جريء، لسلطة الدولار الأمريكي، وسيادته، وهيمنته. 

  تلحق بقضية هيمنة الدولار قضايا اقتصادية ذات صلة وثيقة بالتنمية. ومن هذه القضايا الصعوبات المتزايدة المرتبطة بتعاملات الدول النامية مع المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية التي تهيمن على قراراتها سلطة ونفوذ أمريكا، ودول ممولة أخرى. وغير خافية الجهود المبذولة حالياً لإنشاء مؤسسات بديلة، أو الاستفادة من مبادرات تقدمها دول وتكتلات متخصصة، أو إقليمية، لدعم تنمية شعوب العالم النامي. 

 في حد ذاتها صارت الحروب الاقتصادية والتشنجات الناتجة عنها سِمة بارزة من أهم سِمات المرحلة الراهنة من مراحل تطور النظام الدولي. ولم تعد تقتصر على العلاقات بين دول القمة، بل تجاوزتها لتصير سيفاً مسلطاً على جميع الدول التي تختار مواجهة النفوذ الأمريكي، أو التوسع فيه على حساب مصالحها. والمثال الذي يتبادر فوراً للذهن يتعلق بما يتوقعه نظام حكم الرئيس سيلفا دا لولا، في البرازيل. لقد فاز الزعيم البرازيلي في انتخابات الرئاسة ضد رغبة وإرادة واشنطن، ورغبة وجهود وأموال المحافظين في القارة اللاتينية، وضد مصالح صناعة الأخشاب والتجارة فيها، وضد أموال ونفوذ مصالح أوروبية. وأظن، مع كثيرين غيري، أن أمريكا لن تتأخر في أن تفرض على الرئيس البرازيلي خفض نشاطه، ولجم علاقاته بروسيا والصين، والتوقف عن دعوة دول أخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية للانضمام لمجموعة «البريكس» التي تضم إلى جانب البرازيل كلاً من الهند واتحاد جنوب إفريقيا، ولكنها تضم أيضاً روسيا والصين، القوتين اللتين تدخلان مع الولايات المتحدة، والغرب عموماً، في سباق منافسة الذي هو في شكله ومضمونه الراهن أقرب شيء ممكن لنموذج الحرب الباردة.

 المؤكد أيضاً، أن حرب أوكرانيا تسببت في وقوع شرخ يتعمق بالتدريج في هيكل ومنظومة وحلف دول الغرب.

*ثانياً: بمعنى من المعاني، نعيش في نهايات عصر ازدهرت فيه الأيديولوجيات التقليدية، وأقصد بها تلك التي أفرزتها تطورات الثورة الصناعية، وصعود الطبقة الوسطى في مدن التجارة. وكان لنا في العالم النامي والخارج لتوه من تحت عباءة الاستعمار الغربي، نصيب من سباق الأيديولوجيات وصراعاتها. نذكر كيف تلونت حركات استقلال بألوان يسار، وأخرى التزمت رأسمالية خلفها الاستعمار الغربي، وعندما اجتمع في باندونغ قادة دول حديثة الاستقلال كان طبيعياً، رغم اختلاف الألوان، انشغالهم بفكرة الحق في أن تشارك دولهم في صنع القرارات الدولية. سيطرت وقتها طروحات تأمين الاستقلال الوليد وحماية دولهم من الصراع المخيف الناشئ بين الولايات المتحدة ومعسكره،ا من ناحية، والاتحاد السوفييتي ومعسكره، من ناحية أخرى، وارتفع في معظم أنحاء العالم النامي شعار «لا شرقية ولا غربية».

 مرة أخرى، وبعد أكثر من سبعين عاماً، يرتفع الشعار نفسه من خلال سعي، معلن أو متكتم أو خجول ومتردد، في العديد من أرجاء العالم النامي لممارسة سياسات واتخاذ مواقف أقل تبعية، أو أكثر نفوراً وابتعاداً عن مواقع الصراع الناشب بين العمالقة. 

*ثالثاً: لا أتجاوز الاعتدال الواجب في الرأي عند مناقشة قضايا لم تحسم بعد جميع نهاياتها.

 الانضمام لتكتل غير منحاز قد يكون الضمان الأمثل لدول عديدة في ظروف صعبة كالتي يمر بها عالم اليوم. ومن حق كل الدول، وليس مجموعة صغيرة جداً، كالحادث الآن، اتخاذ القرارات التي تمس حقوق ومصالح شعوب الدنيا كافة. إلا أنه يتعين على الدول التي حرمت طويلاً في مرحلة القطب الواحد من ممارسة حقها في المشاركة، أن تدرك أنه تنتظرها عقوبات ومطاردات وإجراءات، بعضها عنيف، قبل أن يتحقق لها غرضها في التزام الحياد الإيجابي، سياسة وموقفاً، بين قطبين، أو معسكرين يستعدان لصراع مديد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4vxpf7sd

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"