عادي
أين نقد الشعر؟

أكثر من زمن للأدب

22:18 مساء
قراءة 6 دقائق

الشارقة: يوسف أبولوز

النقد بصفة عامة في الساحة الثقافية العربية ليس في أفضل حال، سواء كان هذا النقد ثقافياً أم فكرياً أم أدبياً. تؤشر عافية النقد على ازدهار الحراك الثقافي وعلى نوعية المنتج الإبداعي وعلى رؤية تحكم المهمومين بالشأن الثقافي. في عافية النقد حياة مضافة للثقافة وجدل مثمر بين أطراف الكتابة ومعارك تفتح أبواباً لا نهاية لها للنقاش والحوار الخلاّق. إشكالية النقد في الحالة الشعرية مركبة، فقليل من النقاد لا يجدون ما يشتغلون عليه، فالزمن زمن رواية والكثير من الشعراء هجروا الشعر إلى الحكي أو جفوا شعرياً ولم يعد لديهم ما يقولونه، أزمة النقد في مفصل الشعر مركبة وتحتاج إلى مزيد من الإضاءة، وهذا هو موضوع هذا الملف من «الخليج الثقافي».

يُطرح تساؤل كيف يمكن استعادة زمن نقد الشعر من وقت إلى آخر في الصحافة الثقافية، وفي بعض الندوات والملتقيات المتعلقة بالنقد والشعر، أو ثقافة النقد وثقافة الشعر عموماً في المحيط الأدبي العربي، ولكن، في الوقت نفسه هناك من يطرح سؤالاً أو تساؤلاً استباقياً أراه منطقياً إلى حد بعيد وهو.. كيف يمكن استعادة الشعر أو استعادة زمن الشعر قبل التساؤل عن كيفية استعادة زمن النقد، وما دام أصبح «الزمن» مصطلحاً ملازماً للشعر، فهو مصطلح أو توصيف بات مائعاً وهلامياً اليوم وقابلاً للانقسام إلى أكثر من زمن – منذ أن أطلق الناقد جابر عصفور مصطلح «زمن الرواية».

(1)

الزمن في حد ذاته هو في الواقع أكثر من زمن، فلا يوجد زمن واحد للشعر إذا اعتبرنا فترة الجاهلية زمناً، وفترة صدر الإسلام زمناً آخر، ثم الأزمان التالية: زمن الشعر الأموي، فزمن الشعر العباسي، فالزمن الأندلسي، ثم زمن ما سُمي بفترة الانحطاط إلى زمننا هذا الذي دخلت عليه الرواية فصار لها هي الأخرى «زمنها»، والمقصود بالطبع ب «زمن الشعر» أو زمن الظاهرة الشعرية المكتملة والتي يقال عنها أحياناً الفترة الذهبية، لا بل هناك من يسمى الشعر في مرحلته العبقرية الإبداعية ب «الزمن الذهبي»، وغير ذلك من مجازات وكنايات المقصود منها الإشارة إلى حالة شعرية أو ظاهرة شعرية إبداعية عظيمة برموزها وحراكها وحيويتها الأدبية، مثل ظاهرة الشعر العباسي مثلاً، وظاهرة أعلام الشعر العربي: المتنبي، البحتري، أبو تمام، ابن الرومي،.. وغيرهم، ومثل ظاهرة درويش، والبياتي، وعبدالصبور، وأمل دنقل، فهذه ظواهر شعرية يمكن التساؤل منطقياً عن كيفية استعادتها لكن الزمن في حد ذاته، وبخاصة من زاوية فلسفية «وجودية» لا يمكن استعادته في حال من الأحوال. إن الزمن هو أشبه بنهر هيراقليطس الذي قاربه من ماء النهر وقال إنك لا تقطع النهر مرتين أبداً، ذلك أن الجريان الزمني وهو هنا عند هيراقليطس جريان الزمن لا يمكن أن يتكرر كما ولا يمكن أن يستعاد.

كيف يمكن استعادة الشعر واستعادة ظواهره وحضوره وعبقرياته، لكي بالتالي نستعيد ظاهرة نقد الشعر؟ هذا سؤال كبير، ولكن الإجابة عنه سهلة إذا قرأنا جيداً مجمل الظروف والبيئات التي ولد فيها الشعر العظيم، ولن ابتعد كثيراً إلى الخلف.. قل لن أذهب إلى ما هو أكثر من النصف الأول من القرن العشرين كان خلاله الإنسان العربي مسكوناً بمفردات «رائعة» مثل الأمل، الحلم، المستقبل، الوعد، الآتي وغير ذلك من كلمات لمّاعة جميلة في بيئات سياسية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية وحتى فكرية ونقدية هي – أفضل مئة مرة من بيئات اليوم التي تنتشر فيها دمامل ثقافات مريرة مثل التكفير، والعنف، والتسييس القائم على تحويل الأديان والعقائد والأيديولوجيات إلى أحكام نهائية، وباسم عقيدة محددة أو باسم أيديولوجية ما يجري استخراج فتاوى بالقتل. أليست هذه بيئة تعبوية طاردة كلياً للشعر؟ نعم هي كذلك إلا إذا أردنا أن نقيم منذ الآن وحتى بعد غد حواراً سفسطائياً يشبه عادة بذلك الخلاف الذي نشب بين عدد من الحواريين «ليسوا حواريي المسيح»، حول كم عفريتاً يمكن أن يجلس على رأس دبوس؟.

(2)

لكي يكون عندي اليوم نقّاد مثل غالي شكري مثلاً 1935-1998، فيجب أن يكون عندي شعراء مثل صلاح عبدالصبور «1931-1981»، وبالمناسبة لاحظ هنا أنه من حيث ولادة الناقد والشاعر؛ فالفرق بينهما عمرياً فقط أربعة أعوام، ولكي يكون عندي اليوم نسخة ثانية «أو بحسب السؤال نسخة مستعادة» من إحسان عباس 1920-2003، فيجب أن يكون عندي نسخة من محمود درويش أو سميح القاسم أو توفيق زيّاد، ولكي يكون عندي اليوم نقّاد مثل جبرا إبراهيم جبرا وفاضل ثامر وضياء خضير، وصالح هويدي، فيجب أن يكون عندي اليوم، وفي الوقت نفسه شعراء مثل بدر شاكر السياب، وبلندا الحيدري، وحسب الشيخ جعفر، وغيره من شموس الشعر في العراق في النصف الثاني من القرن العشرين.

إنها معادلة منطقية وواضحة تماماً لمسألة الاستعادة هذه، ولنبق في إطار الشعر مرة ثانية فلكي يكون عندي اليوم سلمى الخضراء الجيّوسي، «1926-2023»، وخالدة سعيد، واعتدال عثمان، فيجب أن يكون عندي نازك الملائكة، وفدوى طوقان، ولميعة عباس عمارة. حسين مروّة 1910-1987، وكمال أبو ديب «1942» وعلوي الهاشمي، وعبدالله الغذامي، ومعجب الزهراني، وصلاح فضل «وهم نقّاد معروفون» كتبوا في زمن أنسي الحاج، وجوزيف حرب، ومحمد علي شمس الدين، وجودت فخر الدين، وحسن عبدالله، ومحمد العبدالله.

صفّ نقدي عربي، أقول وبكل شجاعة أن من صنع هذا الصف النقدي هم الشعراء العرب منذ الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين وحتى التسعينات أو قبل ذلك بقليل حين بدأت هذه الكواكب في الأفول.

لقد أفل الشعر، فأفل النقد الأدبي. توقف محمد الفيتوري عاجزاً عن الكتابة هو وأحمد عبد المعطي حجازي، ورحل أمل دنقل في عزّ تألقه في قصيدة التفعيلة، وتوقف وليد سيف عن الشعر وذهب إلى الدراما التلفزيونية، ورحل علي الجندي، وممدوح عدوان، والبياتي، ودرويش، وجوزيف حرب، ومحمد القيسي، وأحمد دحبور، وغازي القصيبي، وأمجد ناصر، والجواهري، والبردوني، والبريكان، وانكفأ بعض شعراء المغرب العربي على أنفسهم أو أنهم اختاروا الكتابة بالفرنسية، وقصّر نقاد المشرق تقصيراً فادحاً في قراءة الشعرية المغاربية، وهكذا توقف نسل النقّاد.

(3)

هناك نقّاد أساتذة بالفعل، هم في الواقع مؤسسون رواد و«شيوخ» الكتابة المجيدة فعلاً في ديوان العرب. لقد انقطع شوقي ضيف 1910-2005 لشعر العصور: الجاهلية، العباسي الأول، الأندلسي. ذهب ضيف إلى تقصّي مذاهب الشعر العربي وما سمّاه «طوابعه التبعية» على مر العصور، واهتم عز الدين إسماعيل 1929-2007 بقضايا وظواهر الشعر العربي، وقرأ كمال أبو ديب ما سمّاها البنى الإيقاعية والبنى المولّدة في الشعر العربي «الجاهلي منه»، وذهب عبدالله الغذامي إلى «تشريح النص» و«القصيدة والنص المضاد»، وفرّق رشاد رشدي بين «النقد والنقد الأدبي»، وبعده كما نعلم فرّق الغذامي بين النقد الأدبي، والنقد الثقافي، واهتم علوي الهاشمي بظواهر عدة في الشعر السعودي: «شعراء الظل في السعودية»، وأصدر علي بن تميم كتاباً بعنوان «الشعر على الشعر» في إطار ذائقته النقدية «الميزانية» للقصيدة العربية إن أمكن القول، وقرأ فخري صالح تجارب شعرية عربية تعود إلى ظاهرة شعرية الثمانينات بشكل خاص، وأصدر محمد الشنطي 3 مجلدات عن التجربة الشعرية في السعودية، وأثار وليد إبراهيم قصّاب قضية عمود الشعر في النقد الأدبي.

(4)

الحالة التي ذكرتها أعلاه، نجم عنها أطياف من النقاد وليس طيفاً واحداً، وهنا بالضبط صعوبة استعادة الظواهر الأدبية ومن بينها النقد، ففي رأيي كانت هناك وجوه عدة لنقد الشعر أستطيع شخصياً معاينتها على النحو التالي:

أولاً: ظهرت قراءات نقدية للشعر بأقلام شعراء أصلاً. أي أنهم شعراء كتبوا النقد: محمد علي شمس الدين، شوقي بزيع، جودت فخر الدين، هؤلاء الشعراء اللبنانيون لديهم ذائقة شعرية ونقدية بالغة الشفافية، وهم أدرى من غيرهم في معدن الشعر، كأنهم «كتبوه فنقدوه».

ثانياً: نقد الشعر يتحوّل إلى إبداع عظيم في حد ذاته على يد: أدونيس، عبدالعزيز المقالح، خليل حاوي، زهير أبو شايب، يوسف عبدالعزيز، عمر شبانة، عبدالله رضوان، ونلاحظ هنا مرة ثانية أن هؤلاء شعراء. شعراء يقرأون أو ينقدون الشعر بحساسيات شعرية.

ثالثاً: حساسية صبحي حديدي، إلياس خوري «مع أنه روائي»، خالدة سعيد، محمد العلي، علي الدميني، محمد الشنطي، هي في حقيقة النقد حساسية «نقية» تلتقي مع شفافية الشعر، فأنت هنا تقرأ عند هذه الأسماء «نصاً على نص» كما يقال.

رابعاً: إن الكثير من هؤلاء النقّاد ذوي الحساسية النقدية والشعرية «المعشوقة» عند الشعراء.. أقول إن الكثير من هؤلاء هم على قيد الحياة، ولكن خسرنا نحن صمتهم وانكفاءهم.

خامساً: سقطت الحالات النقدية أو الظواهر النقدية المتمثلة في ما يسمى «النقد الأدبي» القائم على الأيديولوجيات وأهواء أصحابها «وتعاونهم على الخير والشر معاً»، فالناقد ذو الهوى الماركسي أو اليساري لا يرى أمامه إلا الشاعر الذي يوافق هواه.. باختصار سقط اليوم هذا النقد للشعر، مع سقوط ما كان يسمى معسكر الاتحاد السوفييتي.

سادسا: انتهى إلى غير رجعة نقاد الظواهر السياسية مثل «نقاد شعراء المقاومة» أو «نقاد شعراء الجنوب»، فكل هذه الحالات كانت خدعة سياسية.

طفيلية

سقط نقد الأساتذة أو بعض الأساتذة الذين يعملون في الجامعات، فهؤلاء أو بعضهم طفيليون يتعيشون على النقد من أجل الحصول على درجة وظيفية أعلى في الجامعة: معيد، أو عميد أو رئيس قسم.

اقرأ أيضاً

فارس النص

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/38mwnkzc

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"