اللاهثون

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

لاهث دائماً وأبداً، مسرع مستعجل وكأنه هارب أو كأن الوقت يهرب منه؛ لا أعرف لماذا أخاف من اللاهثين باستمرار، وأخاف عليهم، لا يستمتعون باللحظة، بل تشعر بأنهم لا يرونها، تمر من أمامهم كالغبار، يفكرون ويتصرفون ويرون الغد وما بعده وبعد بعده، فأين الآن منهم؟ وهل يدركون كيف يستمتعون بالغد؟ 
تصادفهم كثيراً في حياتك، قد يعجبك حماسهم وربما يبهرك اندفاعهم، وحين تطيل الجلوس معهم وتكرر اللقاءات والحوارات تدرك أن لهاثهم معدٍ، فجأة تشعر بضيق في الصدر، متعب أنت وكأنك تركض منذ ساعات بلا توقف، تركض خلف اللاشيء، هناك من يستعجلك لتسرّع خطاك وأنت من يحب الاستمتاع باللحظة، بكل لحظة، الاستمتاع بالصباح، بالقهوة، بصوت الطبيعة، برائحة الطعام وأنت تطهوه على نار هادئة، بمذاق الحلو والمالح وحتى بعض المرورة لم لا؟ الاستمتاع بالكلمة، بالنظرة، بالموسيقى، بالصوت، بالحوار حتى لو كان جدلاً؛ الاستمتاع بالمشاوير والزيارات والعمل والصحبة والرفقة والأسرة والسهر والنوم..
اللاهثون فقدوا مذاق المتعة، لا أعرف إن كان يرضيهم أي شيء وكل شيء، لكن المؤكد أنهم لا يجيدون التقاط الفرحة لينتشوا بها، هي الأخرى تعبر سريعاً وتنتهي كي يكملوا بحثهم عن «التالي».
هل يأتي الغد في عيونهم؟ اليوم هو الغد لكنه سيمر وعيون هؤلاء شاخصة لما بعده، ومن لا يجيد الاستمتاع باللحظة، ولا يجيد الاكتفاء بما حققه لأخذ هدنة ولو بسيطة قبل أن ينتقل للتالي، يصل إلى «الهدنة» متأخراً، حين يكون العمر وأجمل أيامه قد فات، والعودة إلى الوراء مستحيلة. 
كلنا نلهث في هذا العصر، لكن البعض يعلم كيف يلتقط أنفاسه، ومتى يضغط على الفرامل كي ينزل في محطة الاستراحة، يضع حقائب أعماله وهمومه ومسؤولياته جانباً، يتحرر من أغلاله قليلاً، يرتفع قليلاً ليرى الأشياء من فوق، نظرة من بعيد تضيء على كل شيء، الهواء يصبح فجأة منعشاً، المذاق يصبح شهياً، الألوان تشع وكأنها تزهو الآن من أجله، القلب يضحك، العين ترى، النفس تسأل: ما لهؤلاء الناس يسرعون، يلهثون، يتسابقون، يتعثرون ولا يتوقفون؟ تنسى أنها سكنت جسد أحد هؤلاء المستعجلين، الراكضين بلا حدود وكأن الوصول دائماً بعيد وكأن الهدف أبداً لا يتحقق!. 
الهدنة، السكينة، الهدوء، المتعة، الفرحة.. ليست مجرد محطات علينا أن نركض كي نصل إليها، بل هي جزء منا يسكن فينا، ينادينا ليأخذنا من يدنا فنجتاز به ومعه كل الصعاب وكل الهموم وكل الأزمات، حتى الغد ومشاريعه ومخططاته وأحلامه يصبح جميلاً مبشِّراً ميسّراً، نعمل ونستمتع بما نحققه وننتقل بسلاسة من خطوة إلى أخرى ومن تحد صعب إلى التحديات الأصعب.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y83v2s98

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"