عودة الطلاينة

00:07 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

رغم أن القدر الأكبر من القوات الأمريكية في أوروبا موجود في ألمانيا، حيث كتلة المشاركة الأمريكية الأكبر في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن التعاون الاستخباراتي الأمريكي مع أوروبا يتركز تقليدياً في إيطاليا. قد يبدو ذلك مستغرباً في ظل العلاقات الوثيقة والتاريخية بين الأمريكيين والإنجليز، والسمعة التقليدية للمخابرات البريطانية خاصة في مناطق الاهتمام الأمريكي في أوروبا والشرق الأوسط.

 لكن ما لا تسلط عليه الأضواء كثيراً هو أن الأجهزة الأمنية الإيطالية، ومنذ عقود طويلة، هي الأقرب في أوروبا للولايات المتحدة. ربما يرجع الأمر إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي حسمها تدخل أمريكا إلى جانب الحلفاء البريطانيين والفرنسيين وغيرهم (ومنهم الروس في ذلك الوقت)، ضد دول المحور التي قادتها ألمانيا– هتلر وايطاليا– موسوليني.

 ومع صعود اليمين الجديد في إيطاليا إلى السلطة، ممثلاً برئيسة الحكومة جورجيا ميلوني، يسعى الطليان للاستفادة من علاقتهم بواشنطن في تعزيز دورهم الأوروبي على حساب الدور التقليدي لكل من ألمانيا وفرنسا، خاصة وأنه منذ بدأت الحرب في أوكرانيا بدأت الولايات المتحدة تدرك أن القوتين الرئيسيتين في أوروبا، الألمان والفرنسيين، ليستا في حال «تطابق» تام مع وجهة نظرها.

 ثم إن إيطاليا تعتبر نفسها «رائدة» في كل تطور أوروبي. فموسوليني، الاشتراكي الذي تحول إلى فاشي كان ملهماً لهتلر الاشتراكي الذي تحوّل إلى نازي، كما يقول لك أي إيطالي تحدثه عن وضع بلاده في أوروبا. كما يعتبر الطلاينة أن صعود موجة «الشعبوية» إلى قمة السلطة السياسية في الغرب كله وليس أوروبا فقط بدأ من روما مع ظهور بيرلسكوني ولم ينته بظهور ترامب، وتكلل الآن بميلوني، القادمة من «حواري اليمين» على حد وصف أحد المعلقين الإيطاليين.

 ولمن يلقي بالاً للتاريخ المعاصر، يلاحظ أن أمريكا لاحقت الألمان منذ حكم هتلر بتهم النازية، لكن الجميع صمت تماماً وتجاهل الإيطاليين من حكم موسوليني وجرائم الفاشية. يفسر البعض ذلك بأن الولايات المتحدة، التي كانت صاحبة القرار بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أخذت في الاعتبار صعود الشيوعية في إيطاليا وقتها. ولدرء ما اعتبرته الخطر الشيوعي على العالم الرأسمالي تركت كل الفاشيين في المؤسسة الإيطالية، وخاصة الجيش والأجهزة الأمنية، ليواجهوا الشيوعيين. واستمر التعاون بين الجانبين إلى الآن، إذ بغض النظر عن شكل الحكومة وتيارات السياسة في البرلمان؛ فإن الأمن في أغلبه بيد أجيال جديدة من هؤلاء الذين يحملون قدراً من إيطاليا الخمسينات والستينات.

 في الفترة الأخيرة من القرن الماضي وبدايات هذا القرن، ومع نهاية الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي، تراجع دور الطلاينة. وساهم في ذلك أيضاً التردي الاقتصادي الذي شهدته في تلك الفترة، خاصة وأن الاقتصاد الإيطالي يختلف عن بقية الاقتصادات الأوروبية بأنه قائم أساساً على القطاع الخاص العائلي.

 في السنوات الأخيرة، تفكك الاقتصاد العائلي لصالح قوى السوق المفتوح وأصبحت إيطاليا أكثر قرباً من التركيبة الأوروبية والأمريكية. وفي فترة التحول تلك ساد الضعف السياسي، مع توالي الحكومات في فترات قصيرة وتشرذم القوى التقليدية الأساسية. وسمح ذلك ببروز التيارات اليمينية المتطرفة، التي تمثل ميلوني الوجه الأكثر اعتدالاً بينها.

 ومع عدم توفر بديل قوي، يتوقع أن تستمر ميلوني في الحكم دون تهديد قوي من أي طرف سياسي آخر. ويعني ذلك للمخططين في العواصم الغربية الرئيسية أن عليهم التعامل مع إيطاليا جديدة لها دور أكبر. وبعيداً عن تفسيرات المؤامرة، بأن أمريكا ربما تستخدم علاقتها مع إيطاليا، لإضعاف حلفائها غير المتفقين معها تماماً مثل فرنسا وألمانيا، فإن الأمريكيين يرون مصلحة في تعدد الأقطاب في أوروبا. ذلك التعدد الذي تقاومه أمريكا حين يتعلق بقيادة العالم، لكنها تشجعه في «التحالف الغربي الواسع» باعتباره مصدر قوة ومرونة في الوقت نفسه.

 يعتبر الطلاينة تلك فرصة هائلة، لذا تجد أن ميلوني منذ توليها السلطة توسع العلاقات وتزور عواصم لم يهتم بها كثيراً من هم قبلها من أديس أبابا إلى الجزائر. ومن يزر روما حالياً يجد نشاطاً كبيراً للأمريكيين هناك، رغم أنه لم يتوقف لكنه زاد في الآونة الأخيرة. وتبقى عودة الطلاينة للعب دور مهم ضمن أوروبا أو التحالف الغربي، مرهون إلى حد ما بنهاية الصراع في أوكرانيا ومدى تحقيق الولايات المتحدة تحديداً أهدافها الاستراتيجية من وراء ذلك الصراع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/39x8j2tu

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"