الشارقة: علاء الدين محمود
تنطلق اليوم الدورة ال 32 من معرض أبوظبي للكتاب، وعلى مدار سبعة أيام يحتفي المعرض بمفاصل الثقافة كافة، من خلال فعاليات تضيء على الدولة ضيف الشرف، تركيا، وتستعيد زخم مفكر بوزن ابن خلدون، شخصية المعرض، فضلاً عن حفل توزيع جوائز الشيخ زايد للكتاب، وهناك برامج عدة ترضي أذواق الجمهور. لقد تحول المعرض، الذي تشارك فيه 85 دولة، بعد ثلاثة عقود إلى مؤسسة متكاملة الأركان، ولم يعد مكاناً لعرض أحدث الإصدارات وحسب، وتحول إلى عاصمة للمعرفة، يستطيع المتجول فيها أن يتعرف إلى أفكار وثقافات العالم، ويستمتع بوجبة ثقافية دسمة.
لا يكاد يصدر كتاب جديد، أو يتبلور مفهوم في علم الاجتماع إلا ويحمل إشارة إلى العلامة العربي عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، ولي الدين الحضرمي الإشبيلي «1332 -1406م» المؤرخ وعالم الاجتماع الشهير، وذلك الأمر، بطبيعة الحال، يحمل دلالة مهمة على راهنيّة الكثير من الرؤى التي وضعها، وعلى الرغم من أن الأفكار تشيخ، إلا أن بعضها يحلّق بعيداً لكونها ومنذ البدء كانت تخاطب مستقبلاً وإنساناً مختلفاً، خاصة أن خطاب ابن خلدون وأبحاثه كانت تتعمق في المجتمعات في تقلباتها والطبائع في تأثراتها والحضارة وطرق الوصول إليها وأسباب سقوطها.
كانت أفكاره تحمل الكثير من التوقعات أو النبوءات التي صدقها واقع اليوم إلى درجة كبيرة، إضافة إلى أن راهنيّة ابن خلدون نابعة من ذلك الجدل الكبير الذي لا يزال يتداول حول رؤاه ومفاهيمه من مفكرين عرب وغربيين منذ لحظتها وحتى الوقت الحالي.
ربما ما يجعل ابن خلدون أكثر رسوخاً من بين الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين العرب، أن أفكاره التي ورد معظمها في سفره الخالد «المقدمة»، وجدت اهتماماً كبيراً في الغرب وكانت ضمن عوامل تقدم الحضارة الغربية الكثيرة التي نهضت برافعة الفكر والعلوم، ولقد كتب ابن خلدون تلك المقدمة تمهيداً لكتابه «كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، سنة 1377م، غير أن المواضيع التي وردت في المقدمة، نسبة لأهميتها الفائقة، اعتبرت مؤلفاً قائماً بذاته يتناول مجالات معرفية مختلفة ومتنوعة من الشريعة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطب، والأهم من ذلك فإن الكتاب قد تعمق في أحوال البشر واختلافات طبائعهم والبيئة وأثرها في الإنسان، وهذه مسألة شديدة الأهمية قامت عليها الكثير من الأفكار والفلسفات الغربية الحديثة التي اعتبرت أن الإنسان نتاج البيئة التي يعيشها، حتى أن مفكراً بقيمة كارل ماركس أطلق على البيئة البنية التحتية، التي هي مسؤولة عن الشروط المادية والعلاقات الاجتماعية، وتحدث عن بينة أخرى هي الفوقية للمجتمع والتي تشمل الثقافة، المؤسسات، الطقوس، والدولة، حيث يشير إلى أن البنية الفوقية هي انعكاس للتحتية، ومثل هذه الأفكار صارت أساسية.
جدل
يرى كثير من المفكرين أن المقدمة تحتوي على الكثير من الرؤى والنظريات والمبادئ التي تجعل من صاحبها ابن خلدون المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع، وهذا أمر متداول إلى الآن، وجرى حوله الكثير من الجدل في العديد من المؤسسات العلمية على مستوى العالم العربي ولدى بعض الغربيين، ففي حين ينظر إلى أوجست كونت كمؤسس لعلم الاجتماع وواضع لمبادئه، فإن هنالك رأياً يمنح الأولية لابن خلدون، وذلك الأمر لم يأت اعتباطاً، بل من خلال عدد من المفاهيم التي وضعها ابن خلدون في المقدمة، فهو يرى أن المجتمعات البشرية لا تسير بطريقة عشوائية، بل تمضي بموجب قوانين محددة، وهي التي تتيح قدراً من التنبؤ بالمستقبل، إذا ما خضعت للتحليل والدراسة الجيدة، وذلك ما يعرف بالاستقراء الذي كان لابن خلدون فضل كبير في ترسيخه وتعميقه، في سياق ما أطلق عليه هذا العلامة الكبير، «علم العمران البشري»، الذي لا يتأثر بالحوادث الفردية بل المجتمع ككل، وهي نظرية مازالت راهنة.
كما أن ابن خلدون يؤكد أن القوانين الخاصة بالعمران، يمكن تطبيقها على مجتمعات في أزمنة مختلفة، ولكن يشترط في ذلك الأمر أن تكون البنى واحدة؛ أي الأساس المادي، وهذا من الأشياء التي جعلت الكثيرين يرون أن ابن خلدون بالفعل هو من وضع أسساً عملية وحقيقية لعلم الاجتماع، بالتالي وفقاً لهم هو من قام بتأسيس هذا العلم على بنى حديثة، وله في ذلك الكثير من النظريات المدهشة في حقيقة الأمر، لا تزال تجد صدى كبيراً خاصة فيما يتعلق بتطور الأمم والشعوب ونشوء الدولة وأسباب انهيارها، ومفهوم العصبية، وقد استمد منه الكثيرون دراسات حول قيام الحضارات وسقوطها، بل إن البعض يرى أن انهيار منظومة النظام الرأسمالي الحالي لاشك أنها وشيكة، ويستندون في ذلك إلى الكثير من الآراء التي وضعها ابن خلدون في هذا الشأن.
قوانين
والحقيقة أن دراسة «العمران»؛ أي المجتمع، عند ابن خلدون اتسمت بالتنوع والشمول، فقد تحدث عن العمران البشري بالمجمل، ثم فصّله أنواعاً، فهنالك البدوي، وفيه تناول ابن خلدون القبائل والأمم المتوحشة؛ أي خارج الحضارة، كما تحدث عن الدول والخلافة والملك، وتناول العمران الحضري، ثم فصّل أوجه الحياة المادية في الصنائع والمعاش والكسب، وتناول العلوم وأهميتها.
ابن خلدون من أكثر المفكرين حضوراً، خاصة على مستوى الحياة العربية، من حيث المسائل والقضايا التي طرقها وطرحها، ولعل من أكثر المقولات التي تؤكد راهنية هذا المفكر الكبير قوله: «إن الأمّة إذا ما غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء»، وهو في هذا الشأن يتناول أسباباً متعددة تقود إلى زوال أمة حتى إن كانت تتكئ على مجد تليد، فإن المجتمع الذي يتعرض للغزو والاستعمار يصبح نهوضه مسألة معقدة وفي غاية الصعوبة، فهذه المجتمعات حتى عندما يزول عنها الاحتلال، لا تعود كما كانت، فقد انفتحت على ثقافات مختلفة وجديدة، وصارت لا ترى الأشياء إلا بمنظور هذه الثقافة التي فرضت عليها ردحاً من الزمن، ولعل من أقوى الأقوال التي قيلت عن ابن خلدون من قبل مفكرين غربيين، ما ذكره المفكر الفرنسي هنري كوربان في كتابه الشهير «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، عندما أشار إلى أن الفكر العربي ظل قبل ابن خلدون صحراء قاحلة، ولفت إلى أن الأفكار الواردة في المقدمة قد ملأت بالفعل فراغاً هائلاً وقدمت نظريات ورؤى غير مسبوقة في السياسة وعلم الاجتماع، وبالطبع فإن المفكر الفرنسي يشير بصورة خاصة إلى «علم العمران البشري»، الذي يجعل من ابن خلدون واحداً من كبار علماء الاجتماع العالميين المؤثرين والحاضرين بقوة في المشهد الراهن.
السياسية والتاريخ
ولعل من أقوى الرؤى الفكرية التي طرحها ابن خلدون هي تلك التي بذلها في حقلي التاريخ والسياسة، فالمفكر والفيلسوف الكبير يتكئ على منهجية مختلفة وجديدة في تناول التاريخ والظواهر الاجتماعية، فهو يعلي من مسألة استخدام العقل وفحص السرديات والأخبار، لكي يتم إخضاعها للتأمل الفلسفي والتجريب الواقعي، والتثبت والتمعن في ما يتعلق بقبول الروايات، مع استعمال النقل كل ما كان ذلك ملزماً، فهو يستند إلى منهج الاستقراء الذي يعمل على استنباط القوانين التي تتحكم في مجرى التاريخ وتطور المجتمعات مثل نشوء المجتمعات وتطورها وموتها، أما على مستوى السياسة، فإن ابن خلدون يعتبرها محرّك الحضارة، أو هي محرّك التاريخ، وإن كان المجتمع في الأساس يستطيع أن يفلت من الفوضى، وبالتالي يؤمّن بقاء الجنس البشري بفضل السلطة التي في مدارها أيضاً يتم تنظيم المجتمع وتحديد مصير نموذجي الحضارة، الزراعي والعمراني. وبالتالي فإن السلطة تبدو هي المفهوم الأهم في علم العمران، والمحور الذي تتمفصل حوله التحليلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في كتاب المقدّمة، وكذلك الرواية التاريخيّة في كتاب العبر.
الدولة
ولعل الإبداع والعبقرية تتجلى في التنظير الذي سكبه ابن خلدون حول الدولة، وجدير أن نذكر أن الدراسات حول الدولة ظلت دائما قليلة من قبل الفلاسفة، أو تتسم بالغموض، ففكرة الدولة نفسها لدى كثير من المفكرين والفلاسفة غامضة، وينظر إليها كشيء فوقي متعالٍ، جاء ليخدم الإنسان وينظم حياة المجتمع في طبقاته وفئاته المتنوعة والمتعددة، لكن الدولة دائماً ما تكون مغتربة عن هذا الواقع، ومن هنا فإن التنظير حول الدولة نفسه معقد ومتشعب، وفيما يتعلق بإسهام ابن خلدون فهو لم يبتعد كثيراً عن هذا الغموض، وبصيغة أقرب إلى المزاج الأرسطي يرى ابن خلدون أن «الدولة والملك بالنسبة للعمران بمثابة الصورة للمادة»، ويرى أنها كائن ينشأ مثل الإنسان، يتطور ويصل إلى مبلغ القوة والمجد، وعندما تصل إلى مستوى من المنعة، فيجب أن تحافظ على مجدها بقوة العصبية والولاء والعقيدة والبأس، فإن لم تفعل ومالت نحو حياة الترف والرفاهية والمجون والخنوع والتقاعس عن العمل والجهاد، فإن مصير هذه الدولة الحتمي هو الاضمحلال والفناء والموت، وتلك هي سنة الحياة تجري على الإنسان، كما تجري على حياة الدول والممالك، وتبرز في قضية الدولة عند ابن خلدون، كما نرى مسألة في غاية الأهمية، هي العصبية التي بها تتقوى الدولة، وكذلك التمسك بالعقيدة والولاء، ومن ثم تتحول الدولة من طور البداوة إلى الحضارة بمقتضى الطابع العمراني، وهذه العصبية هي المسؤولة عن استمرار الدولة، فلئن كانت عند ابن خلدون هي العقيدة أو الولاء، فإن تلك المؤثرات لا تزال راهنة في كثير من الدول، يضاف إليها في العصر الراهن روافع أخرى مثل الأيديولوجيا.