عادي

قمة جدة.. العودة إلى الثوابت

23:19 مساء
قراءة 4 دقائق
2

د. أحمد سيد أحمد *

شكلت القمة العربية التي انعقدت في جدة بالسعودية، يوم الجمعة 19 مايو/ أيار، نقلة نوعية في مسار العمل العربي المشترك، ولمّ الشمل العربي، واستعادة النظام الإقليمي العربي الذي تعرض لهزات كبيرة خلال العشرية السوداء، في مرحلة ما سمي ب«الربيع العربي»، حيث تحولت فيه المنطقة إلى ساحة للتنافس، الإقليمي والدولي، وصراع النفوذ والمصالح بين القوى الكبرى والقوى الإقليمية، وتزايدت معها الصراعات والأزمات المسلحة، والحروب الأهلية في عدد من الدول العربية.

خلال هذه السنوات كانت الكلفة البشرية والاقتصادية والأمنية باهظة للعالم العربي بسبب هذه التحديات، بعدما تراجع فيها العمل العربي المشترك بشكل كبير.

ويمكن القول إن قمة جدة انعقدت في ظروف مغايرة وجديدة في المنطقة العربية، فقد استطاعت دول القلب الصلب (مصر والسعودية والإمارات) استعادة العافية العربية، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وشكلت قاطرة العمل العربي المشترك، حيث تمت تنقية الأجواء العربية، وتحقيق المصالحات بين الدول العربية، كذلك تصفير المشكلات الإقليمية، خاصة مع دول الجوار، مثل تركيا وإيران، كذلك مواجهة خطر الإرهاب والتنظيمات المتطرفة والتصدي للتدخلات الخارجية، والعمل على تسوية الأزمات العربية بطريقة سلمية، وفي إطار الحفاظ على وحدة وسلامة وسيادة الدول العربية، ودعم الدولة الوطنية ومؤسساتها الشرعية ورفض مفهوم الميليشياوية والتنظيمات المسلحة، التي تمثل كيانات موازية تهدد الدول الوطنية.

العمل العربي المشترك

وإلى جانب هذا المسار السياسي والأمني الذي قادته الدول الثلاث، وبالتوازي، قادت مسار التنمية وتحقيق النهضة الاقتصادية الشاملة من خلال الرؤى التنموية التي تتبناها هذه الدول، وحققت نهضة كبيرة تمثل نموذجاً يحتذى، عربياً ودولياً، ونواة لتعزيز التعاون والتكامل الاقتصادي العربي، وتجفيف بيئة العنف والإرهاب والفقر. ولذلك تحولت المنطقة من ساحة للصراعات والحروب والإرهاب والتدخلات ومفعول به، إلى فاعل، وتمت بالفعل استعادة روح العمل العربي المشترك، وقد انعكس ذلك في الحضور الكبير من جانب الرؤساء والملوك العرب في قمة جدة، وعكست أجواء عربية جديدة متفائلة.

عودة سوريا

لا شك أن أبرز ملامح استعادة منظومة العمل العربي المشترك مؤخراً هو عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية، وحضور الرئيس بشار الأسد القمة بعد غياب 12 عاماً، وشكلت عودة سوريا أهمية كبيرة، سواء في تعزيز العمل العربي المشترك، أو في ما يتعلق بتعزيز الدور العربي في دعم سوريا، ومساعدتها في المسار السياسي وتحقيق تسوية نهائية ودائمة للأزمة السورية، وتحقيق التوافق بين الدولة والمعارضة في إطار قرارات الأمم المتحدة خاصة القرار 2254، كذلك دعم سوريا اقتصادياً وإعادة الإعمار وبناء المناطق المهدمة، ما يساعد في إعادة اللاجئين والمهاجرين السوريين في الخارج.

حلول عربية للأزمات العربية

كان من أبرز مخرجات وملامح قمة جدة هو التأكيد على أهمية الحلول العربية للأزمات العربية، خاصة في سوريا واليمن وليبيا، وكذلك السودان الشقيق، بعد اندلاع المواجهات العسكرية الأخيرة، خصوصاً مع استضافة السعودية للمفاوضات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ونجحت في تمديد الهُدن، ومعالجة الوضع الإنساني، ما يمثل أرضية لتحقيق إنجاز في الأبعاد السياسية والأمنية الأخرى وحل القضايا العالقة بين الجانبين. كما أكدت القمة الثوابت العربية في ما يتعلق بالأزمات المختلفة، كذلك دعم القضية الفلسطينية وتأكيد أهمية حل الدولتين، باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967، ورفض كل الإجراءات الأحادية التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين. كما أكدت القمة على الأمن المائي العربي، خاصة بالنسبة لمصر وسوريا والعراق، باعتباره جزءاً من الأمن القومي العربي.

مواجهة التحديات

انعقدت القمة في ظل تحديات، إقليمية ودولية، غير مسبوقة، مع استمرار الأزمات والصراعات في بعض الدول العربية، كذلك مشكلة الأمن الغذائي مع ارتفاع أسعار الغذاء عالمياً، بسب استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وتصاعد حدة الاستقطاب الدولي بين القوى الكبرى. وقد نجحت سياسة الحياد الإيجابي التي تبنّتها مصر والسعودية والإمارات، وبناء شراكات استراتيجية مع كل القوى الكبرى وعدم الانحياز لطرف ضد الطرف الآخر، في زيادة الأهمية الاستراتيجية للمنطقة العربية، وتنافس القوى الكبرى على بناء شراكات اقتصادية واستراتيجية مع الدول العربية. وقد انعكس ذلك في حضور الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي لقمة جدة، وكذلك مخاطبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقمة عبر برقية متلفزة، ما يؤكد أن العالم العربي أصبح رقماً مهماً وفاعلاً في المعادلة الدولية، خاصة في ظل هذه المرحلة المهمة من تاريخ النظام الدولي الذي يشهد تحولاً كبيراً من نظام الأحادية القطبية، إلى نظام التعددية القطبية.

خريطة طريق عربية

لا شك في أن انعقاد القمة العربية واستمرار دوريتها يعد إنجازاً، كما أن الروح العربية الجديدة التي ظهرت في قمة جدة تعد تطوراً مهماً، كذلك فإن الرسائل العربية التي تم التأكيد عليها في القمة تمثل خريطة طريق عربية لما بعدها، ما يتطلب التركيز على الأولويات العربية في المرحلة المقبلة والتي تتمثل في ثلاث أولويات رئيسية، وهي أولاً: الإسراع في تسوية وإنهاء الأزمات العربية، خاصة في اليمن والسودان وليبيا وسوريا، واستعادة الدولة الوطنية المركزية الوطنية في هذه الدول، والانطلاق في عملية تنمية شاملة. وثانياً: العمل على تعزيز التنمية العربية والتعاون الاقتصادي خاصة في مجال تعزيز الأمن الغذائي العربي. وثالثاً: العمل على تنسيق المواقف العربية من أجل مواجهة التحديات الإقليمية، خاصة الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني وانتهاك مقدساته، كذلك تقليل آثار الأزمات العالمية واستمرار سياسة الحياد الإيجابي.

وفي كل الأحوال، فإن مخرجات القمة العربية شكلت أساساً مهماً ينبغي توظيفه واستثماره والبناء عليه، خاصة في مجال تعزيز العمل العربي المشترك ومواجهة التحديات المختلفة.

* خبير العلاقات الدولية في الأهرام

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/7x8vrbe3

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"