فتنة التدخل الأجنبي

00:54 صباحا
قراءة 3 دقائق

تهدد منطقتنا مخاطر كبرى ومخاطر صغرى، والأخيرة ليست سوى نتاج عن الأولى، وأكبر المخاطر التي هددت وتهدد دولنا هو التدخل الأجنبي، الذي عانته المنطقة العربية عبر عصور التاريخ المختلفة، والذي ما زالت تعانيه رغم اتخاذه أشكالاً مختلفة عن أشكال التدخل التقليدية التي تمتلئ بها كتب التاريخ، والتي غيرت جغرافيا المنطقة، وأعادت رسم خريطتها وحدود كل دولة مرات ومرات.

كان التدخل في الماضي يتخذ شكل الاحتلال والاستعمار، ولا توجد بقعة في العالم العربي إلا وعانت استعماراً عسكرياً وسياسياً، وبعضها تناوبت عليها إمبراطوريات الشر من الشرق والغرب والشمال والجنوب استعماراً على مدار تاريخها الممتد إلى ما قبل الميلاد، بل وما قبل التاريخ.

كانت أرض هذه المنطقة دائماً مطمعاً للمستعمرين، انتهكتها جحافل جنودهم وخربت أخضرها ويابسها آلات الدمار التي كانت أدواتهم للقتل والاستحواذ، وأذلت أهلها عنصريتهم، وأرهقت شعوبها جباياتهم وضرائبهم، وأفقرها نهبهم لمواردها وخيراتها وكنوزها، واستفزهم علْمها وعلماؤها، وتعذب في سجونهم عناصر مقاومتها التي لم تقبل إلا بالتضحية بالأرواح حتى خروجهم منها، تساوى في ذلك الهكسوس والحيثيون والمغول والتتار والفرس والرومان والعثمانيون والصليبيون والفرنسيون والإنجليز والإيطاليون والإسبان والبرتغاليون، وأخيراً الإسرائيليون الذين تجاوزوا طموح كل المحتلين عبر التاريخ، ولم يكتفوا باستيطان فلسطين، ولكنهم يواصلون الاعتداء على أهلها وأقصاها ومقدساتها، ولا يعبأون لا لنداءات السلام الشامل ولا لقرارات الأمم المتحدة.

التدخل الأجنبي يغيّر شكله من عصر لآخر، كما تغير الحرباء لون جلدها. فبعد أن كان في الماضي له شكل واحد أصبح اليوم متعدد الأشكال والأساليب، عسكري وسياسي واقتصادي واجتماعي، والأخطر اليوم هو الغزو الثقافي الذي يستهدف تغيير العقول وتبديل الأفكار وطمس الهويات وخلق الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، بما يضمن نشر الفوضى وتفتيت الأمة إلى شعوب وشيع وجماعات تتنافر ولا تتكامل، تتقاتل ولا تتوحد. ولم يكتفوا بخلق الفتنة بين شعوب المنطقة، بل نجحوا في خلقها بين أبناء الشعب الواحد، مستخدمين في ذلك أسلحة العرق واللون والدين والمستوى الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما أفرز فوضى الربيع العربي التي أسقطت أنظمة، ودمّرت دولاً، ومزّقت شعوباً وفتّتت أسراً، وبرغم مضي 12 عاماً على انتشار هذه الفوضى، فإن بعضنا لا يفهم ولا يستوعب الدرس، بعض دولنا ما زالت عاجزة عن إصلاح ما أفسدته التدخلات الأجنبية، وبعضها تسقط من جديد في هذا المستنقع، وآخر الأمثلة ما يحدث في السودان من اقتتال بين الجيش وقوات الدعم السريع ويهدد بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر.

قادتنا يعلمون أن الخطر الأكبر الذي يهدد الأمن القومي العربي هو التدخلات الأجنبية، وهو أيضاً الذي يهدد الدولة الوطنية العربية، كما يهدد مساعي لم الشمل التي ميّزت قمة جدة عن غيرها من القمم العربية، ويؤكد أننا لن نستعيد سيادتنا كاملة إلّا بالتصدي للتدخلات الأجنبية في شؤوننا الداخلية؛ ولذا فقد حذر عدد من الزعماء العرب من التدخلات الأجنبية، مؤكدين أن حالة الفوضى التي تعانيها بعض دولنا لن تنتهي إلا بوقف التدخلات الأجنبية، والتأكيد على سيادة الدول، واحترام ثقافة الأمة وإرادة الشعوب العربية.

القوى العالمية تتصارع علينا، وتسعى لتقاسم دولنا وثرواتنا كما تقاسمتها في زمن الاستعمار، ولم تتوقف مساعيها لتحويلنا إلى مناطق نفوذ لهذه الدولة أو تلك منذ جلاء المستعمر التقليدي عن أراضينا. ولكن التدخل اليوم أصبح أكثر نعومة ولو كانت نتائجه أشد شراسة، فهم يستعمروننا من الداخل، يستعمرون عقولنا ويوجهوننا عن بعد للاقتتال حتى يسهل لهم السيطرة على قرارنا وشل إرادتنا عن سلوك درب التنمية والبناء.

التدخل الأجنبي كان وما زال وسيظل، ولن يلجمه سوى فضح أدواته وعلى رأسها سلاح حقوق الإنسان الذي يستخدمونه سيفاً مسلطاً على الحكومات، رغم الانتهاكات التي يرتكبونها في دولهم وخارجها على حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، وكذلك العبث بنا من خلال أسلحة التواصل والتكنولوجيا الجديدة التي تبيح لهم العبث بقيم السماء وموروث الشعوب لتشويه الإنسانية، وتحويلنا إلى صور ممسوخة يحركونها كما قطع الشطرنج، بما يخدم مصالحهم لتبرير تدخلهم، ليس على الأرض ولكن في العقول.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3x2m7yjx

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"