عادي
نظام متعدد الطوابق في جبل علي للتخزين الرأسي

«بوكس باي».. مستقبل مناولة الحاويات ترسمه دبي

00:15 صباحا
قراءة 8 دقائق
نظام بوكس باي على ارتفاع 11 طابقا (تصوير: صلاح عمر)
دبي: فاروق فياض

على بعد نحو 40 كلم من وسط دبي، لا تحتاج سوى بضع دقائق للوصول جنوباً إلى أهم وجهة تجارية للإمارة، تاركاً وراءك الصخب المالي والعقاري والسياحي والتجزئة في وسط المدينة، وعلى امتداد خط مسيرك من جهة اليمين؛ ثمة ساحل أزرق ناصع وأكثر لمعاناً، مملوء ومكتظ بآلاف السياح والزوار من شتى البلاد والجنسيات والألوان، وبعد مسير مئات الأمتار نحو مقصدك، تجد أمامك خلايا نحل بشرية، وآلات من كل الاتجاهات، حيث تتحرك وتنشط الرافعات الضخمة، والعربات الثقيلة، وحاويات البضائع الكبيرة التي هي عصب الشحن البحري والتجارة العالمية، والسفن والبواخر التي تصطف تباعاً تنتظر الإذن لدخول أهم وجهة تجارية في الإمارات والمنطقة، نعم؛ لقد وصلت إلى وجهتك؛ إنه «ميناء جبل علي»، الأول إقليمياً، والعاشر عالمياً، في قائمة «أكبر موانئ الحاويات في العالم».

وأدخل الميناء مؤخراً، تقنية ال«بوكس باي» الثورية المستقبلية، وهي عبارة عن نظام ذكي للتخزين الطابقي للحاويات في محطة الحاويات رقم 4.

ولا تتوقف التصنيفات العالمية التي استحقها الميناء عند هذا فقط، بل نال العديد والكثير من الجوائز المرموقة والسمعة طيبة الأثر، بفضل سرعة نموه وتوسعه الجغرافي، وكثافة خطوط الشحن والإمداد التي يتعامل معها سنوياً، فضلاً عن ملاصقته لأكبر المناطق الحرة الاقتصادية والتي سميت على اسمه لاحقا - «جافزا» - أكبر المناطق الجمركية مساحة في الشرق الأوسط.

شهدت «جافزا» في عام 1985 تأسيس 19 شركة فقط، العدد الذي وصل إلى أكثر من 500 شركة في عام 1995، وصولاً إلى ما يزيد على 9500 شركة من 130 دولة، منها 100 ضمن قائمة «فورتشن» لأفضل 500 شركة، وتخلق نحو 130 ألف فرصة عمل.

  • الماضي والمستقبل

وللعودة إلى الوراء قليلاً؛ وتحديداً في عام 1975، وعلى أساس العلاقة التي تربط دبي ببحرها، اتخذ المغفور له، بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، قراره التاريخي ببناء ميناء لا مثيل له على بعد 40 كلم من وسط دبي، ليؤسس لمرحلة جديدة من دور دبي المحوري باعتبارها مركزاً تجارياً لدولة الإمارات وللمنطقة عموماً، فكان هذا القرار بمثابة الفتح لعصر جديد من التجارة والشحن البحري.

وكان الشيخ راشد صاحب الفكرة الرائدة بتجريف وتعميق خور دبي في الخمسينات، وبناء ميناء راشد الحديث في عام 1972. وكان يعلم جيداً أن الطريق إلى الرخاء يقوم على أسس بعيدة عن الموارد النفطية المحدودة، ألا وهي الاستثمار في البنية التحتية اللوجستية لتعزيز المكانة التجارية لدبي.

وبكل المقاييس، كانت فكرة بناء «ميناء جبل علي» قفزة كبيرة في التفكير المستقبلي، ولكن ليس بالنسبة لحاكم دبي الراحل الذي آمن بالذهاب بعيداً إلى حيث لا يجرؤ الكثيرون. كانت دبي تتوسع في التجارة بمعدلات غير مسبوقة، لذلك؛ فقد اتخذ القرار ببناء ميناء عملاق لم يسبق له مثيل، فكان «ميناء جبل علي» عند تدشينه في ديسمبر/ كانون الثاني عام 1979 يمتلك أكبر حوض بحري من صنع الإنسان، ويمكن رؤيته من الفضاء ليكون في مصاف عدد قليل من الإنجازات البشرية، مثل سور الصين العظيم. ومنذ ذلك الزمن؛ تعيش دبي في عصر المستقبل.

الصورة

 

  • الريادة.. دوماً

ولا يزال «ميناء جبل علي» القلب النابض ل«موانئ دبي العالمية - دي بي ورلد» مع ما يشكله مع المنطقة الحرة لجبل علي (جافزا) من نموذج فريد من نوعه تريد الكثير من دول العالم الاقتداء به.

كانت القوة الدافعة وراء عمليات الاستحواذ؛ الرغبة في أن تكون موانئ دبي العالمية أكثر من مجرد مشغل للموانئ، وإنما أن تصبح عاملاً رئيسياً في تمكين التجارة العالمية. وبفضل ما وصل إليه ميناء «جبل علي» و«جافزا»؛ أصبحت دبي واحدة من أفضل خمسة مراكز بحرية جنباً إلى جنب مع سنغافورة وهونج كونج ولندن وشنغهاي، وفقاً لمؤشر «تطوير مركز الشحن الدولي» ( ISCDI0).

وبعد مرور أكثر من 43 عاماً، أصبحت دبي تعيش في المستقبل الذي لطالما كانت سباقة إليه، من خلال تبني مفهوم الميناء شبه الآلي، الذي دشّنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في عام 2014. وهو مفهوم يعتمد أحدث التقنيات من الرافعات المسيّرة عن بعد إلى الروبوتات ونظم الأتمتة، وصولاً إلى نظام «بوكس باي» الذكي للتخزين الطابقي للحاويات، ونظام النقل فائق السرعة «الهايبرلوب»، والكثير من الخطوات المقبلة، حيث لا يجرؤ الكثيرون.

  • مساهم اقتصادي

تمثل مساهمة «جافزا» وميناء جبل علي ما نسبته 33.4% من الناتج المحلي الإجمالي لإمارة دبي، ونحو10.7% من الناتج المحلي الإجمالي لدولة الإمارات، وتصل مساهمة الميناء وحده إلى 26.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لدبي، ويعد الميناء بوابة رئيسية لأكثر من 80 خدمة شحن أسبوعية، تربط الإمارات والمنطقة بأكثر من 150 ميناء حول العالم. وتبلغ السعة الاستيعابية للحاويات في الميناء نحو 19.3 مليون حاوية نمطية، ومع افتتاح محطة الحاويات رقم 4 فائقة الحداثة والتي جرى تطويرها، تصل الطاقة الاستيعابية للميناء إلى 22.4 مليون حاوية نمطية (بطول 20 قدماً).

وارتفع عدد السفن التي تعاملت معها دبي خلال 3 سنوات إلى نحو 60 ألف سفينة، تخدم 3.5 مليار مستهلك حول العالم. وتعاملت المؤسسة مع 28 مليون حاوية في العامين الماضيين؛ حيث ارتفع عدد الحاويات في 2022 التي تم تسليمها بنسبة 1.7% إلى أكثر من 14 مليون حاوية؛ مقارنة مع عام 2021، والتي بلغت فيه 13.77 مليون حاوية.

كما سلمت موانئ دبي نحو 1.4 مليون سيارة؛ فقد لامس عدد المركبات التي سُلمت في 2022 ال796.5 ألف مركبة، مقارنة مع 606.4 مركبة في عام 2021 بنمو قوي 31%.

  • أتمتة ورقمنة

ومن هنا، لا بد من مواكبة آخر تطورات وتكنولوجيا الخدمات اللوجستية التي تسرع وتيرة العمل، وبما يقلل من ارتكاب الأخطاء البشرية، فقد

دخل الميناء عصر الأتمتة والرقمنة من خلال 4 محطات للحاويات قادرة بأحدث تقنياتها، واعتمادها للتشغيل شبه الآلي، على التعامل مع سفن الحاويات الأكبر على الإطلاق. حيث يتميز بالقدرات اللوجستية الفائقة، والتي تشمل محطة الشحن في الحاويات والتخزين والترانزيت، كما يوفر أرقى مرافق تخزين البضائع المبردة والمجمدة.

ولطالما كان «ميناء جبل علي» سباقاً ومقبلاً على كل ما هو حديث ومستقبلي، فكان من بين أولى الموانئ في استخدام الرافعات العملاقة القادرة على مناولة أكثر من حاوية في وقت واحد، ولا يزال من بين موانئ قليلة تعتمد عمليات المناولة شبه الآلية للرافعات.

الصورة

 

وأدخل مؤخراً تقنية ال«بوكس باي» الثورية المستقبلية، وهي عبارة عن نظام ذكي للتخزين الطابقي للحاويات في محطة الحاويات رقم 4.

وهو ميناء يتبنى أحدث تقنيات «البلوك تشين» التي تتيح أتمتة العمليات التجارية، وفي جعبته الكثير من الخطط لتبنّي استخدام الروبوتات في ربط أقفال الحاويات من دون تدخل بشري، والقوارب ذاتية القيادة. كذلك «الهايبرلوب».

وعلى صعيد الخدمات الذكية، فقد بدأت في عام 2003 ثورة تقنية جديدة عبر تأسيس «دبي التجارية» كمنصة رقمية تتيح لمستخدمي ميناء جبل علي وأصحاب البضائع إجراء جميع معاملاتهم من خلال نافذة رقمية واحدة، تعمل على رقمنة كامل عمليات إصدار أوامر التسليم ما يوفر الكفاءة الفائقة لسلسلة التوريد.

ويشكل الاستثمار التقني لدى المجموعة أحد أهم عناصر النمو المستقبلي لأعمالها. حيث تسعى لإيجاد القيمة المضافة لعملائها بأساليب جديدة، ومن خلال التحدي والابتكار وتنفيذ الأعمال بشكل مختلف لتحقيق كفاءة أكبر. وتمكنت المجموعة من خلال تبني التكنولوجيا في كل شيء؛ بأن تكون السباقة والرائدة في تمكين التجارة. وكل ذلك ساهم في أن يكون ميناء جبل علي والمناطق الحرة ومجمعات الأعمال التابعة لموانئ دبي العالمية؛ الخيار المفضل لدى للعملاء.

والآن، ومن خلال تبنّي تقنيات الاتصال من الجيل الخامس، فهي تتطلع إلى مراقبة عمليات الرافعات عن بعد، والتتبع الآني للشحنات، وتحسين مناولة البضائع، وإدارة الأفراد، والكثير من الإمكانات الهائلة التي يمكن أن توفرها التقنية الحديثة، وتتيح للعملاء تعزيز الأعمال اللوجستية من خلال حلول رقمية مؤتمتة وفعالة وآمنة.

الصورة

 

  • ما هو ال«بوكس باي»؟

يشمل نظام «بوكس باي»؛ هيكلاً ضخماً مصنوعاً من الصلب مع رافعات التكديس المدمجة فيه، حيث تم تصميمه ليعمل بين أرفف الحاويات، فهو يشبه المكتبة، إلا أن وزن كل كتاب (الحاوية في هذا السياق) يمكن أن يصل إلى 40 طناً بقياس 40 أو 20 قدماً، حيث يتم تكديس كل حاوية في منصة فردية، بينما تمر رافعات التكديس بينها، وتلتقط أي حاوية من دون الحاجة إلى تحريك الحاويات. ويعتمد على تخزين الحاويات في طوابق مرتفعة تصل إلى 11 طابقاً على أرفف فولاذية.

وفي منتصف مارس/ آذار من عام 2021، أعلنت «موانئ دبي العالمية»، بالتعاون في مشروعها المشترك -«بوكس باي» مع مجموعة «إس إم إس» الألمانية المتخصصة في مجال الهندسة الصناعية، والتي أتمت خلاله أول 10 آلاف حركة لتخزين الحاويات على المنصات المرتفعة في ميناء «جبل علي»

كان ذلك إيذانا بتدشين المجموعة لمرحلة جديدة من المناولة والرقمنة والانسيابية والسرعة والسلاسة في تقديم الخدمات. ويؤكد هذا الإنجاز نجاح المنصة التجريبية لهذه التقنية المبتكرة، ويبرهن على إمكانية إجراء تغييرات جذرية في طريقة مناولة الحاويات في الموانئ حول العالم.

وتم الانتهاء من بناء منصة الاختبارات العملية التي تستوعب 792 حاوية في يوليو/ تموز 2020 في محطة الحاويات 4 بميناء «جبل علي».

الجدير للذكر؛ أن النظام التقليدي في مناولة الحاويات يعتمد على تخزين الحاويات في صفوف بعضها فوق بعض، ما يستلزم عادة تحريك الكثير منها من مكانها للوصول إلى الحاويات الموجودة على المنصات الأقل ارتفاعاً.

  • جوائز مرموقة

وفي ال20 من أكتوبر/ تشرين أول 2022؛ حصد النظام الآلي والصديق للبيئة لتخزين الحاويات على المنصات المرتفعة بشكل آمن «بوكس باي»، الجائزة الألمانية لإدارة سلسلة التوريد لعام 2022. لتميّزه باعتباره نظاماً تجريبياً نموذجياً تم تطويره وتنفيذه رغم التحديات التي واجهها قطاع الخدمات اللوجستية في مناولة الحاويات مؤخراً، حيث يقدّم حلاً مبتكراً لعدد من أهم التحديات الرئيسية في مجال الخدمات اللوجستية في موانئ الحاويات، ويجمع بين تعزيز الكفاءة وتحقيق الأهداف البيئية.

وفي مطلع مارس/ آذار من العام الجاري 2023، أعلنت «دي بي ورلد» عن أول استخدام تجاري للنظام في محطة حاويات بوسان في كوريا الجنوبية، سادس أكبر ميناء للحاويات في العالم. وسيتم دمج النظام بسلاسة مع عمليات الرافعات الآلية المتحركة على السكك الحديدية والشاحنات، لتحديث منطقة تخزين شاغرة للحاويات، حيث سيقدّم ميزة الوصول المباشر إلى كل حاوية في أي وقت، وسيسهم في الاستغناء عن 350 ألف عملية نقل غير ضرورية سنوياً، ما سيخفّض إجمالي الوقت الذي تستغرقه الشاحنات لنقل الحاويات داخل المحطة بنسبة تصل إلى 20%، ويشكل إضافة نوعية إلى خدمات تسليم البضائع التي تقدّمها شركة «بوسان نيوبورت» إلى متعامليها.

ويبلغ طول نظام ال«بوكس باي» في «ميناء جبل علي»؛ 230 متراً، وبعرض 26 متراً، على ارتفاع 11 طابقاً، وبعدد 792 فوهة، أو فتحة لمناولة الحاويات، ومن الناحية النظرية، فإن طاقته الاستيعابية تبلغ 92 ألف حركة حاويات، ورافعتين لتكديس الحاويات، وناقل حركة واحد مع سيارات متحركة، ورافعة واحدة مثبتة على مركبة ثقيلة، وحامل متنقل واحد، وهو نظام مدار ومؤتمت بشكل آلي كلي للمستودعات التي تضم الحاويات.

ومع تواتر التطورات والثورات التقنية على مختلف الصعد والقطاعات، وعلى رأسها التجارة وسلسلة الإمداد والنقل والخدمات اللوجستية والتخزين، فإن نظام «بوكس باي»؛ يعد صرعة المستقبل في التجارة الرأسية، والتي تعتمد على آلية نقل وتخزين ومناولة الحاويات بشكل عمودي ومتعدد الطوابق.

الصورة
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yjksskf6

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"