توجس عالمي من أزمة تداول نقدي

21:48 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

نُذر الأزمة بدأت تعلن عن نفسها، ومرة أخرى من صوب الولايات المتحدة، متمثلة هذه المرة في إرهاصات أزمة إفلاسات بدأت تلوح في الأفق، بانهيار ثلاثة بنوك، هي «سيليكون فالي»، و«سنجنيتشر»، و«فيرست ريبابليك». وكما يبدو من عديد المؤشرات الصادرة عن واشطن، فهذه ليست النهاية. فوفقاً لشركة «MSCI Inc»، وهي شركة إدارة أموال أمريكية مقرها نيويورك، وشركة «كابيتال إيكونوميكس» (Capital Economics)، وهي شركة أبحاث اقتصادية عالمية مقرها لندن، هناك 4800 بنك في الولايات المتحدة، نصفها معسر، أي أن التزاماتها (Liabilities) أكبر من أصولها (Assets)؛ وأنه، إضافة إلى هذا المأزق المصرفي، هناك أزمة عقارية تلوح في الأفق، تحوم خصوصاً حول العقارات التجارية (Commercial properties)؛ حيث ستتطلب إعادة تمويل حجمها تريليون دولار من القروض على مدى العامين المقبلين؛ ولسوف تسحقها في هذه الحالة أسعار الفائدة المرتفعة. وقد يكون «الفضل»، «كل الفضل» في هذا، منسوب إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي تحول للاتجاه الصعودي المتواتر في رفع سعر الفائدة، مع أنه في الحقيقة أقرب الى كونسرتيوم مصالح مصرفية ومالية خاصة، منه إلى هيئة حكومية عامة.

المعروض النقدي «Money supply»، بفئتيه «M1» (الذي تمثله الكتلة النقدية السائلة الحاضرة للتداول فوراً، وهي الودائع النقدية، والشيكات، وحسابات التوفير)؛ و«M2» (الذي يشمل النقد المطروح في التداول والودائع الجارية وأنواعاً أخرى من الودائع التي يمكن تسييلها بسهولة مثل شهادات الإيداع «Certificate of Deposit – CD» - وكلاهما في انخفاض يفسره بعض المحللين الماليين الأمريكيين بأنه في أحد تعبيراته يعكس هجرة معاكسة للمال داخل النظام المصرفي. وفي حال رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة مجدداً (وقد تكون هذه هي المرة الأخيرة أو قبل الأخيرة)، فقد تتدفق النقود الساخنة «Hot money» (رؤوس الأموال الطيّارة التي تتحرك بخفة بين أسواق المال العالمية بحثاً عن صيد سهل وثمين لاقتناصه)، إلى الولايات المتحدة. لكن إذا قامت البنوك المركزية الأخرى في العالم برفع فائدتها تزامناً مع رفعها في أمريكا، وبدأت موجة بيع الدولار الأمريكي وخفض حيازات الخزانة الأمريكية، فقد تتدفق هذه الأموال إلى خارجها.

وطبقا لأصول مسك الدفاتر أو المحاسبة القانونية، فإن الأصول في الميزانية يجب أن تتساوى مع الخصوم (الإيرادات والمصروفات). لكن البنوك الأمريكية لديها أكثر من 600 مليار دولار من الخسائر غير المحققة «Unrealized Losses» (هي خسائر «ورقية» تنتج عن امتلاك أصول انخفض سعرها، لكن مالكها اختار الاحتفاظ بها وعدم بيعها بخسارة). وقد يكون هذا هو السبب الذي يقف خلف انهيار البنوك الأمريكية، حيث تعمد إلى بيع سنداتها بخسارة للوفاء بالتزاماتها تجاه مودعيها وتجاه مطلوباتها. كما لو أن الاقتصاد بمجمله أضحى معسراً، نتيجة لدفع الاقتصاد ودفع مستهلكيه، للعيش بما يتجاوز طاقات الاقتصاد وإمكانات مستهلكيه لسنوات عدة، وتحمل في سبيل ذلك ديوناً لا طائلة له، ولهم على تحمّلها، لولا أن «أنعم» عليهم الدولار الامتيازي بهذا «العطاء» الخادع. لذا، وبناء على الوقائع والتفاعلات الداخلية للأساسيات الاقتصادية، من المتوقع أن تستمر مستويات المعيشة للأمريكيين في الانخفاض، وتزداد مشكلة «إنتاج» التضخم، وانخفاض الأجور الحقيقية ترتيباً. أما كيف حدث هذا، فمرده أساساً إلى طباعة 5 تريليونات دولار دفعة واحدة تقريباً، من دون رصيد ذهبي أو سلعي، ما أدى إلى ارتفاع التضخم، وإلى اضطرار البنك المركزي (الاحتياطي الفيدرالي) لرفع سعر الفائدة توالياً، وهو ما لم تتمكن البنوك من التحوط له واستيعابه، فاختلت ميزانياتها العمومية (زيادة الخصوم على الأصول). كأن ال 5 تريليونات دولار تبخرت من دون أن يشعر بها الجميع.

الآن، أمام هذه التداعيات النقدية والمالية، الأمريكية، والتي بدأت تلقي بظلالها على معظم وحدات الاقتصاد العالمي، ما الذي يتعين على الدول والمستثمرين عمله تحوطاً لما هو قادم غير معلوم؟ هذا ما سنسلط الضوء عليه في المقال القادم.

*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8z5xky

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"