إدارة الاختلاف

01:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

المشهد الأصعب في حياة الشعوب هو ظهور العنف المفاجئ بين أبناء الوطن الواحد، وظهور الحقد على السطح بين عشية وضحاها، وتنتقل المجتمعات بقدرة قادر من السلام إلى الحرب، ويتحول الصديق إلى عدو، فيتقاتل أبناء اللغة الواحدة والدين الواحد والنسَب الواحد، فلا تُراعى القيم ولا تاريخ الجيرة والصداقة ولا الزمالة. فجأة تظهر غريزة البقاء، فتُستخدم كل أنواع الأسلحة، وكل النعوت والأوصاف البشعة، فجأة يصبح أحد الأطراف خائناً وكريهاً ومنبوذاً، وكذلك الأمر بالنسبة للطرف الآخر.   

  هذا ما يحدث في الحروب الأهلية المنطلقة من دوافع دينية أو سياسية أو عرقية أو اجتماعية أو طبقية، ويصبح هدف كل طرف القضاء أو إفناء الطرف الآخر، وإقصاءه من الحياة والوجود. فجأة يتحول الصراع بين الأخوة إلى صراع وجود، وهذا يعني أموراً كثيرة، من بينها أن السلام الذي كان سائداً كان كاذباً، واللغة التي كانت مستخدمة كانت نفاقاً، والنوايا كانت متوحّشة، والكراهية المبطّنة كانت ساكنة في النفوس. ويحق لنا التساؤل ببساطة أو سذاجة أو حسن نوايا، كيف يحدث كل هذا؟ وكيف تجمّعت أكوام الكراهية على مرّ السنين، وكيف استطاع الطرفان إخفاء ذلك البغض لفترات طويلة؟

  إنه لمشهد مريب يستحق الدراسة، وإن كنا قد تحدثنا سابقاً عن القومية الفاشلة والصراع بين الشعوب، فإننا في حالتنا اليوم نتحدث عن الوطنية الفاشلة، والانتماء الكاذب، والولاء المشبوه، وذلك حين ينقسم أبناء الوطن الواحد، ويعيثون دماراً في البلاد، فيعملون على تدمير بُنيتها التحتية التي بُنيت على مر سنين طوال، ويحطمون المؤسسات الرسمية، ويخربون المنشآت الخدماتية من مدارس ومستشفيات ومرافق صحية وبيئية. أي أنهم يعيدون بلادهم إلى التخلّف عن سابق إصرار، والأكثر من ذلك، يهجّرون شعبهم ويحرقون ثرواته. إلى ماذا يستند هؤلاء؟ وما هي الشرائع التي تسمح لهم بالتخريب والتدمير والتهجير؟ وماذا سيجنون في النهاية؟

  أغلبية الحروب الداخلية والصراعات العسكرية في الوطن الواحد، وفي كل أنحاء العالم، كانت تنتهي بالجلوس إلى طاولة المفاوضات والمصالحة، حيث ينجو الزعماء المتحاربون ويتقاسمون البلاد من جديد، والخاسر الوحيد والأكبر هو الشعب الأعزل.   

 والسؤال البسيط جداً: إن كنتم ستجلسون إلى طاولة المفاوضات، فلماذا لم تلجؤوا إلى الصلح ولغة الحوار منذ البداية؟ هل لأنكم لا تملكون القرار؟ أو أنكم أدوات في أيادي الآخرين وتنفذون سياسات ليست وطنية على الإطلاق؟ من يحاكم هؤلاء؟ ومن يعيد حقوق المدنيين؟ من يعيد الآلاف إلى الحياة وعشرات الآلاف إلى صحتهم أو بيوتهم؟

  ما يحدث الآن وما حدث سابقاً في أكثر من بلد عربي هو العبث بعينه، بل إن ما يحدث في أي حرب أهلية في العالم هو العبث والاتجار الحقيقي بالبشر ومصائرهم وثرواتهم، حيث غالباً ما تتلقّى الأطراف دعماً من الخارج، وتكون مهمة هذا الخارج الإبقاء على الدول المستهدفة منشغلة بذاتها، تداوي آلامها وتعيد إعمار مؤسساتها، لتبقى تابعة للآخر، وبعيدة عن عجلة الإنتاج والتقدّم والتطوّر والسلام والاستقرار، وبعيدة عن توظيف مهارات أبنائها ومواهبهم، الذين يكونون قد هاجروا هرباً من القتال والدمار والموت.

  لغة الحوار والمفاوضات لحل الخلافات هي الطريق الأسلم والأصح والأقل تكلفة. ولا شيء ينهي الخلاف أو الاختلاف سوى النقاش المبني على تقبّل الآخر والاعتراف بحقه في الوجود، أي إدارة الاختلاف باللسان وليس بالبندقية، إذ لا أحد يستطيع إلغاء الآخر لأنه متجذّر في مكانه منذ مئات السنين، ومحاولة تغيير الديمغرافيا أو الجغرافيا تتطلب سنوات طويلة، ولن تتغير كما يحلم الحالمون. فلماذا لا يتوقف العابثون بمصائر الناس وهم عالمون أن عبثهم لن يؤدي إلى نتيجة؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/55jdhwk9

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"