كوميديا المصطلحات الرنّانة

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

أتذكُر، في النظام العالمي البائد تدريجاً، كيف كانت قائمة من المفردات الطنّانة، تضبط إيقاع الدول والعلاقات الدولية؟ تماماً، مثل المصطلحات الإيطالية المعمول بها في التدوين الموسيقي عالميّاً: بطيء، سريع، متألق، بعظمة.
مايسترو هذا النظام البائد، الذي هو القطب الواحد، كانت له قائمة مصطلحاته: المجتمع الدولي، الشرعية الدوليّة، مكافحة الإرهاب، إلى الهراوات الغليظة: «من ليس معنا، فهو ضدّنا». ثمّة طرافة خاصّة ومذاق متبّل بخلطات سرّيّة في اللعب بالمكوّنات، مثل مهارات الإعداد والتقديم، لدى «الشيف» جورج بوش الأب الذي تألق بطبق «النظام العالمي الجديد»، الذي حوّلته أستاذة جورج بوش الابن، كونداليزا رايس، إلى طبق «الفوضى الخلّاقة». أليست أعجوبة أن يؤدي النظام إلى الفوضى التي تغدو تربة خصبة للإبداع. سابقة تاريخية فريدة.
لكن، حين يكون القطب الواحد هو قائد الفرقة، يُحسن ضبط الإيقاع، خلافاً لنظرية محمد رشدي: «دي حاجات مش ممكن يضبطها، ولا ميت طبّال». ضبط الإيقاع العالمي رأيناه وصارت بلدان العالم كله دفوفاً مرافقة، وكفوفاً صافقة. حين صاح المنادي الأوحد: «يا معشر بني آدم الزموا بيوتكم ليُبيدنّكم كوفيد وجحافل فيروساته». بعد ذلك كلّما سمع الناس الصيحة، أمست المدن كما يقول فريد الدين العطّار: «ليس في الدّار غيرهُ دَيّارْ». الكوميديا التي أبدعت المفوّضية الأوروبية في خنق أصدائها، هي شراء أربعة مليارات جرعة تطعيم كوفيدي لسكان القارّة الأوروبية الأربعمئة مليون، أي بمعدّل عشر جرعات لكل فرد، حتى الرّضّع الذين فتحوا أعينهم للتوّ على مسرح الكوميديا العالمية.
أنت على حق، فهذا الكلام فيه استطرادات كثيرة، وهي من العيوب الجاحظية، الناجمة عن عدم ضبط الإيقاع في مقطوعة الكتابة، وإلّا فإن موضوعنا الأصلي ثقافيّ بامتياز: كيف تتبخّر المصطلحات التي كانت شاغل الناس والدنيا؟ هل تستطيع اليوم الإمبراطورية المتراجعة، قول ما لم يقل أبو الطيّب: «ليَعلمِ الجمع ممّن ضمّ عالَمنا.. بأنني خير من دانت له الأممُ»؟ في رواية أخرى: «من دانت له النظُمُ».
أين توارى المجتمع الدولي؟ كيف تقلّص؟ كيف تقزّم فظهر على حقيقته؟ هل ذابت الشرعية الدولية؟ كيف يجوز للبشر العاديين الذين ليسوا من المجتمع الدولي، أن يكونوا بلا ضبط إيقاع من الشرعية الدولية؟ فلسفة الفوضى الخلّاقة هي أن تُمحى كل الأشكال الموجودة، وتُسوّى بالأرض، لكي يبدأ البناء من جديد على أرضية بلا نتوءات. لهذا اخترع المجتمع الدولي مصطلح «المليار الذّهبي» أي صفوة الرأسمالية المتغوّلة، فالمليارات السبعة الباقية زوائد، أعشاب ضارّة. شيء محزن، أن يعيش «العزيز هنري»، قرناً كاملاً، من دون أن يستطيع تحقيق أحلامه الاستئصالية. المسكين، منذ العقد السادس وهو يناضل في سبيل تقليص أعداد مئات الملايين الزائدة. لم يفلح.
لزوم ما يلزم: النتيجة الغرائبية: المأساة هي أن ذلك الضحك من الذقون، كان هو الثقافة السائدة الفاعلة في حياة الشعوب، باسم القيم الحضارية والسياسية.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y35br5df

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"