اليابان بين ذاكرتي الحرب والسلم

01:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

فرضت الولايات المتحدة الأمريكية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية على اليابان الالتزام بخيار السلم من أجل التخلي نهائياً عن تاريخها الاستعماري الذي عانت ويلاته شعوب المنطقة، لاسيما في الصين وكوريا الشمالية والجنوبية.

   وقامت السلطات الأمريكية في سنة 1946 بفرض دستور على الإمبراطورية المستسلمة، يعتمد حصرياً على السلم ويلزمها بالتخلي عن كل مظاهر العسكرة في الأرخبيل، ومع مرور الوقت وتعاقب سنوات الرخاء تشكّل جيل جديد من الشباب الياباني يحمل ذاكرة مبتورة، ولا ينظر إلى الماضي إلا بصعوبة بالغة، حتى أن الحديث عن أهوال القنبلتين النوويتين في ناجازاكي وهيروشيما لم يكن يجري سوى على نطاق ضيق جداً.

 وكان من نتائج هذه النزعة السلمية المبالغ فيها أن اليابان كانت الدولة الوحيدة في العالم التي فضلت أن تطلق على جنودها تسمية قوات الدفاع الذاتي ولم تجرؤ على الحديث عن جيش نظامي أسوة ببقية دول العالم.

  يذهب المتابعون للشأن الياباني إلى أن ذاكرة الحرب العالمية الثانية ومعها ذاكرة كل الحروب التوسعية والاستعمارية التي خاضتها الإمبراطورية اليابانية، يذكرنا بالإرث الثقيل الذي مازالت تحمله طوكيو في التاريخ الحديث والمعاصر من نهاية القرن التاسع عشرة إلى نهاية الحرب الكونية الثانية، لاسيما بالنسبة لدول شرق آسيا بسبب العنف البالغ القسوة الذي مارسته القوات اليابانية، والذي مازالت النخب اليابانية الحالية تماطل من أجل الاعتراف به بشكل كامل، الأمر الذي يشير، بالنسبة للمؤرخين، إلى وجود أزمة في التعامل مع ملف الذاكرة بالنسبة لليابانيين نتيجة الصعوبة التي يواجهونها في استيعاب تاريخهم الوطني بكل تفاصيله وجراحاته على غرار ما حدث في ألمانيا.

  نلاحظ في المرحلة الحالية أنه وبعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، بدأ المارد الياباني يستيقظ من سباته ويتجه بخطوات متثاقلة ولكن ثابتة، نحو إعادة تشكيل قواته المسلحة حيث قرّر رئيس الوزراء الياباني رفع ميزانية الدفاع إلى 2 في المئة من الناتج الداخلي لبلاده، لتصبح ميزانية الدفاع اليابانية ثالث أكبر ميزانية في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. وهذا التطور الذي باتت تشهده المؤسسة العسكرية اليابانية لا يعني أن قواتها كانت ضعيفة أو سيئة التجهيز قبل اتخاذ هذا القرار، فتعداد الجيش الياباني المعروف بقوات الدفاع الذاتي، وصل إلى 247 ألف رجل وامرأة وإلى 48 ألف جندي احتياطي خلال هذه السنة بميزانية تقدر ب 45 مليار يورو بما يمثل 1 في المئة من الناتج الداخلي، وهو رقم ضخم ولا يتناسب في كل الأحوال مع العقيدة السلمية لليابان.

  وعليه فإنه وعلى الرغم من التصريحات الرسمية اليابانية التي تسعى إلى التقليل من أهمية الارتفاع الكبير الذي تشهده ميزانية الدفاع والتأكيد من ثمة على التمسك بالخيار السلمي للدولة اليابانية، إلا أن مخاوف اليابان من تنامي القوة العسكرية لجيرانها يجعلها شديدة القلق ومستعدة لأخذ أكثر القرارات تشدداً من أجل توفير المزيد من الإحساس بالأمن والطمأنينة لسكانها الغيورين على نمط حياتهم وأسلوب معيشتهم المنضبط والمتناسق. 

  ويبرّر المسؤولون اليابانيون في هذا السياق، ما يجري من تغيير على مستوى عقيدتهم العسكرية بالقول: ما يحدث الآن في أوكرانيا يمكن أن يتكرّر غداً في آسيا؛ ويرون أن الهجوم الذي قام به بوتين ضد أوكرانيا يمكنه أن يقود إلى هجمات أخرى، في إشارة منهم إلى إمكانية قيام الصين بهجوم مماثل على تايوان من أجل استعادتها، الأمر الذي سيجعل الحرب تدق أبوابها بشكل مباشر، وذلك إضافة إلى التهديدات التي تمثلها كوريا الشمالية من خلال تجاربها الصاروخية والنووية، والخلاف مع الصين على بعض الجزر، وكذا خلاف طوكيو مع موسكو على جزر الكوريل.

  ويمكن القول في الأخير، إن تأرجح اليابان بين ذاكرتي الحرب والسلم أي بين الذاكرة البعيدة نسبياً والذاكرة الراهنة، يمكنه أن يحسم في أي لحظة لصالح خيار عسكرة المجتمع الياباني الذي يملك عقيدة قتالية شديدة المراس، لاسيما وأن مستوى الإنفاق العسكري المرتقب خلال السنوات المقبلة يتجاوز إلى حد كبير متطلبات الدفاع عن النفس، ويفصح عن استعدادات يابانية حثيثة للذود عن مصالحها الإقليمية، ومن شأن هذه التحولات التي تحدث في شرق آسيا أن تجعل المنطقة أكثر عرضة لمزيد من المواجهات، وأقل استقراراً بالنسبة لكل شعوبها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc5tryn8

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"