النيوليبرالية كسبب لمرض الوحدة النفسية

00:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

منذ بضعة أسابيع، كتبت مقالاً عن الانتشار المتسارع لوباء مرض الشعور بالوحدة والغربة النفسي، ووعدت بالدخول في تفاصيل مسبباته وآثاره. وقد اضطرتني الأحداث الجديدة المتسارعة في الوطن العربي للكتابة عنها، وتأجيل متابعة الموضوع.

نبدأ اليوم بإبراز أحد أهم مسببات ذلك الشعور النفسي، وعلى الأخص انتشاره في أوساط الشباب والشابات، بمن فيهم العرب.

إنه ترسيخ ونشر وتزيين مبادئ ومنهجيات الفلسفة السياسية النيوليبرالية العولمية وتطبيقاتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على الأخص. هذه الفلسفة التي تمجد بصور جنونية كل أنواع الحرية: حرية الاختيار، حرية الأسواق، حرية عدم الانصياع لأية توجيهات، أو تدخلات حكومية، أو نقابية، أو حزبية، أو حتى عائلية، في حياة الفرد والمجتمع.

وبالتالي، ركزت على تمجيد استقلال الفرد عن أي ارتباط أو مسؤولية، إلا مصلحته الشخصية، وعلى تمجيد الحكومة الصغيرة محدودة المسؤوليات، وبالتالي خصخصة كل الخدمات الاجتماعية والحقوقية، وعلى تمجيد التنافس إلى حدود المرض واللا قِيم، وتدمير الخصم، وعلى تمجيد الخروج على سلوك مجتمعي، حتى ولو كان على حساب التاريخ والهوية والقِيم الدينية الأخلاقية.

وبالطبع لعب الإعلام غير الملتزم، والخادم للمصالح، في تمجيد أبطال تلك الفلسفة، من أمثال مارغريت تاتشر، ورونالد ريغان، ورافعي شعار الطريق الثالث، من أمثال توني بلير وكلينتون ومدرسة شيكاغو الشهيرة، وغيرهم من الأبواق ومروّجي الصرعات العبثية.

من هنا بدأت مشاعر الوحدة النفسية عند الملايين. فالرأسمالية النيوليبرالية قادت إلى مجموعة صغيرة بالغة الغنى وعيش الترف، بينما وجدت الأغلبية الفقيرة المهمشة نفسها معزولة ومحرومة، وبالتالي في عزلة عن كل ما يجري من حولها، بل وموصوفة بأنها فاشلة وغير صالحة لأية منافسة.

ولما كانت الفلسفة النيوليبرالية شددت على الفردية شبه المطلقة، فقدْ فقدَ الارتباط والتعاطف مع الفقراء، وفقد التعاطف الحكومي معه، وفقد الترابط المجتمعي التاريخي مع الأسرة والجار والحارة والنقابة والحزب، وحتى صاحب مصدر الرزق، ودخل عالم الشعور بالوحدة الوجودية التي لا معنى ولا هدف لها، بل ولا حتى أمان وسكينة فيها.

كان كل ذلك تتويجاً لما قاله رونالد ريغان، في ثمانينات القرن الماضي: «إن الكلمات التسع المزعجة في اللغة الإنجليزية هي القول إنني من الحكومة، وإنني هنا لأساعد من يحتاج».

كانت كلمتا الحكومة ومساعدة الآخرين موبوءتين في قاموس النيوليبرالية. وكان تتويجاً لما قالته مارغريت تاشر لشعبها ما معناه: لا يوجد شيء اسمه نقابة، أو عائلة، أو مجتمع، بل يوجد فقط فرد مستقل مسؤول عن نفسه، ولا توجد وسيلة لتغيير القلوب والنفوس إلا الاقتصاد.

فجأة، وجد العالم نفسه في داخل دوامة النيوليبرالية على أوسع نطاق عندما تبنّى السياسيون المسؤولون شعارات مؤيدة من مثل التفتيش عن المصلحة، أو أن الطمع صفة حميدة، أو أن الاستهلاك الفردي النهم يخدم المجتمع والاقتصاد، أو أن كلمات التضامن والتعاطف مع الآخرين هي كلمات من خارج العصر الذي نعيش. وبدأت البرلمانات والحكومات تبشر بمجيء الإنسان الجديد: إنسان الاقتصاد HOMO) ECONOMICUS ) بدلاً من الإنسان الكائن العاقل.

بتساقط، أو ضعف العلاقات الاجتماعية، علاقة بعد علاقة، وصعود الفردية المادية الاستهلاكية العبثية، كان طبيعياً أن يشعر إنسان العصر وعلى الأخص شاباته وشبابه، المتطلعين إلى حياة رفقة إنسانية بشتى أشكالها، الأسرية والاجتماعية والثقافية والروحية أن يشعر بالوحدة الوجودية، بل وأن يتساءل إن كانت هذه الحياة تستحق أن تُصان، وأن يشقى الإنسان من أجلها.

ولذا، لن تقف مشاعر الوحدة عند تلك الحدود، إذ شيئاً فشيئاً ستقود إلى أمراض نفسية وعقلية وجسدية بالغة الخطورة، وسنحاول الإشارة إلى أخطرها في كتابات مستقبلية.

لكن دعنا نذكّر أنفسنا بأن ليس المهم هو الوصف والتشخيص، وحتى العلاجات للكثير من المحن التي يواجهها إنسان العصر، إنما المهم الإشارة إلى أسبابها الحضارية الخاطئة، والنضال لمواجهة تلك الأسباب، ودحر الذين من ورائها.

.. ستكون كارثة لو أننا أضعنا الوقت في التشخيص، وأهملنا الأسباب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2t8mzbzz

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"