حال الأمة

00:06 صباحا
قراءة 4 دقائق

أعترف بأن حال أمتي لا يعجبني. أمتي التي أتحدث عنها هي مجموعة الشعوب العربية، وتسكن أرضاً تمتد بين الخليج في الشرق، والأطلسي في الغرب. تقاربت مع شعوب في الجوار عبر القرون ومن خلال عقائد دينية ومصاهرات ومصالح، تقاربت حتى تشابهت جميعها، أو كادت. ثم تدهور حالها، أقصد حال أمتي، حتى أنهم كتبوا في وصف قدرها ومكانتها ما يملأ جزءاً معتبراً من تقرير صدر عن جامعة جونز هوبكنز عنوانه «مؤشر البؤس العالمي».

استخدم واضعو التقرير لقياس البؤس أربعة معايير، أهمها نسب البطالة، والتضخم، ومعدلات الإقراض، والنمو المحلي الإجمالي. يقيسون البؤس في إقليم هو الأغنى في عالم الجنوب. لا أشك في نزاهة الباحثين، أو في موضوعيتهم والتزامهم الأسلوب العلمي، كما أنني لا أخفي إعجابي بعنوان التقرير، وباستخدام الباحثين مترادفات عبّرت، فعلاً وللأسف الشديد، عن حال الأغالبية من أفراد الأمة التي تسكن هذا الإقليم.

وبذكاء شديد متوقع من باحثي هذه الجامعة المرموقة، جرى التبادل الغزير في وصف حال الأمة، بين صفات منها البؤس والبطالة والكآبة والتعاسة. أظن أننا لا نستحق أن تجتمع علينا هذه الأوصاف، وأعتقد أن استمرار ترديد هذه الأوصاف لحال الأمة العربية، ككل، قد يشجع الأقلية القادرة فيها والواثقة من براءتها وعدم انطباق أي من هذه الصفات عليها، على الاندفاع بحسن نية نحو انتهاج سياسات من شأنها أن تزيد الفجوة اتساعاً بينها وبين أشقائها العرب الموصوفين في التقرير بالبؤس والتعاسة.

وهذا، وللحق، لأمر جد خطر. نتيجته الأولى لو حدث أننا، وأقصد أمتنا، تصبح لتجد نفسها انحدرت، مكانة ونفوذاً، بين مثيلاتها من الأمم، أو لتجد نفسها في نهاية المطاف وقد انفرط عقدها شعوباً متنافرة، كل شعب منها خلع عن نفسه، أو انخلعت عنه، هوية العروبة. نتيجته الثانية أن تصبح الأمة لتجد المفهوم الافتراضي الذي اكتست به كغطاء يستر نقائصها ومواقع ضعفها ونقاط شكوكها، وأقصد النظام الإقليمي العربي، وقد صار هو نفسه محل شك.

أين الحقيقة وراء ما حدث، ويحدث للأمة العربية. أمؤامرة حيكت لنا بإتقان؟ صحيح أن المؤامرة لصيقة الصلة بالعلاقات الدولية. وتكاد لا تخلو منها علاقة بين دولتين أو بين مجموعتين من الدول، ولكني، وإن كنت لا أرفضها أو أنكر وجودها، إلا أنني لا أعطيها حق أن تطغى على غيرها من العناصر الفاعلة في العلاقة الدولية. فقد حاولت مدرسة الاستشراق إلصاق الأسلوب التآمري بمنظومة السلوك السياسي العربي، حتى صار التآمر في بعض كتابات المؤرخين الغربيين سمة ثابتة، انتقلت من بعدهم إلى كثير من الباحثين في أحوال الأمة العربية، بخاصة تاريخها السياسي. أرفض نظريات المؤامرة ولا أستبعد التآمر. وهناك في الواقع العربي الراهن أسباب للانحدار لا يمكن ولا يجوز إنكارها، ولا بد من مواجهتها، إن شئنا وقف الانحدار، وشئنا الاستعداد للصعود.

يجب أن نتساءل إن كان السياسيون في بعض دولنا العربية تركوا عبقرياتهم تنحسر. أعني بذلك أن بعض السياسيين في هذه الأمة بدأوا مسيراتهم بكفاءة. ومع مرور الوقت الطويل شاخت الكفاءة كأي خاصية أخرى، وركنت الطبقة السياسية إلى الرضى بالمألوف والسهل، والقمع أحياناً، عوضاً عن بذل الجهد لتطوير الطموح.

قيل، وتردد أن بعض السياسيين، في عالمنا العربي كما في خارجه، تنهكهم ضغوط شعوبهم، أو يضجون بالشكوى من بطء تفاعل الشعوب مع تطلعاتهم وأحلامهم، بل وراح البعض يتهم الشعب في بلده بالتمسك بالتخلف والفقر والتراخي في العمل. أنا نفسي سمعت رئيس دولة، خلال حوار مغلق، يتمنى لو أمكنه تغيير شعبه بشعب آخر.

أرفض القول إن شعباً كان فاشلاً طول الوقت. شعوبنا في الشرق الأوسط لم تكن فاشلة طول الوقت، ولا كانت تعيسة ومتشائمة على الدوام. بل سعت للنجاح والرخاء والاستقرار، ولكنها نادراً ما وجدت الفرصة مناسبة. وقيل كسالي لا يعملون، وإن عملوا لا ينتجون. وعلى عكس ما قيل هاجروا، بمئات الألوف أو بالملايين، دليلاً على قدرة ورغبة ونية في التقدم. وكانت الطبيعة عائقاً لتقدم الشعوب في بعض المراحل، والاستعمار في مراحل أخرى، والسياسيون بفساد بعضهم، أو قلة خبرتهم وتجاربهم في العمل السياسي في معظم المراحل. ومع ذلك أفلح البعض منهم حين أقاموا جامعة الدول العربية كإحدى أقدم المنظمات الإقليمية في العالم، ووضعوا لها ميثاقاً للعمل الإقليمي فشل خلفاؤهم في تطويره على امتداد سبعين سنة، أو أكثر.

نتساءل: ألا يمكن أن يكون السبب وراء هذه السمعة، أو الصفات السيئة التي تُلصق بالأمة العربية بين الحين والآخر، أن النظام الإقليمي بشكله الراهن وحجم عضويته الكبير، لم يعد، بميثاقه ومنظمته الإقليمية العتيقة، يرضي تطلعات وآمال شعوب هذه الأمة؟ يقال إن النظام الإقليمي فشل، فراحت الشعوب تبحث عن مصالحها خارج هذا النظام. يقال أيضاً إن الشعوب لم تعد تفرز قيادات تجدد بها دماء القائمين على العمل العربي المشترك.

السنوات القادمة في حياة أمتنا تبدو لي من على البعد وبالتمنّي، حبلى بكل ما هو غريب وجديد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/39xa2tpy

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"