من الهامش إلى قلب التاريخ

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

هل بالغ القلم أمس في صياغة العنوان: «أسرار الخطط الثقافية الصينيّة»؟ الأسرار لها تاريخ مفعم بالنوادر والطرائف. «كليلة ودمنة»، مثلاً، كانت من أسرار كنوز المعارف في مكتبة مَلَكيّة هنديّة، وقد وضع الفُرْس خطة جاسوسية معقّدة لسرقة نسخة عنها. في مصر القديمة، كانت أمور من قبيل الرياضيات البسيطة وما إليها، أسراراً لدى كهّان المعابد. لكن، لم تعرف كلمة أسرار تألقاً كالذي لاقته في تجليّات المتصوّفين والعرفاء. هؤلاء كانوا على اتصال بعوالم لا تقاس حتى بمليارات السنين الضوئية. ثمّة أسرار للتسلية كشعوذات الألعاب السحريّة، وثمّة أسرار الصناعات العسكرية المتطوّرة، وتلك يهون فيها ما لا يهون. ما الذي يجعل للأسرار كل هذه الأسرار؟ لماذا الإصرار على الأسرار، في الإعلان أو في الإسرار؟
لا شك في أن النظام العالمي الذي تلوح في الآفاق طلائعه، سيُسفر عن مفاجآت كبيرة بها أسرار كثيرة. لكن أعظم الأسرار سيكون سرّ التنمية الفائقة. السرّ هو أن تكون التنمية شاملة. هذه قضيّة ثقافية بامتياز، لكونها فكرية في الأساس. كان في إمكان العالم العربي أن يصنع معجزة تنموية لو، ولو، ولو. الصين أربعة أضعاف العرب نفوساً. في أربع وسبعين سنة، منذ 1949، طبّقت المثل الفرنسي: «لنأكل أوّلاً ثم فلنتفلسف». أي أن سلّة الغذاء العربي، هي البرهان على أن إشباع البطون هو الدعم السريع للتنمية. في الصين، طبّقوا الآية الكريمة: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» (قريش 4). بمجرّد إعلان الزعيم ماو ضمان طبق أرز لكل صيني، لم يمض وقت طويل حتى امتلك البلد السلاح النووي، وهو التأمين ضد الخوف، حتى لا يُذلّهم الغرب بحرب الأفيون لكي تستطيع بريطانيا تسديد ديونها. هي ذي ثقافة الفعل. المعجزة الحقيقية هي انتشال الصين ثمانمئة مليون صيني من الفقر باقتصاد قائم على العلوم والتقانة.
النظام العالمي المتقدم نحو قمرة القيادة العالمية هو أكبر تحوّل ثقافي في التاريخ الحديث، فسوف يعيد إلى الفكر مكانته. لقد حدث اختطاف لمنظومة القيم الثقافية، وتشويه هويتها بعمليات غسل للأدمغة. صار أصحاب الخطط الاستراتيجية للهيمنة العالمية، هم روّاد الفكر انتحالاً واحتيالاً. خذ مثلاً، كتاب «رقعة الشطرنج الكبيرة» لبرجنسكي، يعرض بصراحة خطّةً لتفكيك روسيا لتحقيق محاصرة الصين. أيّ فكر هذا؟ كيسنجر قال صراحة: «ثمّة سبعة بلدان لو احتللنا حقولها النفطية، لأغنانا ذلك عن شن كل حروب الشرق الأوسط». هل هذه فلسفة؟ لقد وضعوا كل فلاسفة التاريخ في سلّة المهملات.
لزوم ما يلزم: النتيجة التداركية: أكبر سرّ نجحت به تنمية الصين هو ثقافة إرادة إعادتها من هامش التاريخ إلى قلب صناعة العصر. هو ذا المفتاح للعرب أو لا يكون.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8pc7p7

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"