التصوّف بعيون الغرب وعيوننا

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

هل أهاج التعريج أمس على التصوّف، الأشواق إلى شموس معارف العرفان؟ التصوّف سيّئ الحظ في العالم العربي. فئات كثيرة تناصبه العداء، لأنها لم تسبر أغواره، فهي تتّهمه بما ليس فيه، وتخلط بينه وبين الشعوذات. لا تعرف الفارق بين القمم من طراز جلال الدين الرومي، فريد الدين العطار، محيي الدين بن عربي، وبين حفلات الزار. نظرة خروفية، الكل صوف، وكل المدوّر كعك.

العالم الإسلامي الذي هو بحر الأصداف التي تلألأت فيها درر العرفاء، لم ينجب ولا حتى واحداً في قامة المستشرق البريطاني رينولد نيكولسون، الذي ترجم «المثنوي المعنوي» لجلال الدين، وهو خمسة وعشرون ألف بيت في الفلسفة الصوفية. هذه ليست ترجمة أخبار بوساطة جوجل. نقل التصوف الإسلامي إلى الإنجليزية يحتاج إلى شيء من التمارين كقطع سبعة بحور، أو التدرّب على حمل الجبال. ألمانيا هي التي جادت على التصوف الإسلامي بالمستشرقة الرائعة آن ماري شيمل. ألم يكن أفضل للعرب والمسلمين، أن يهدوا إلى الألمان والإنجليز، روائع التراث الإسلامي، أم الأجمل أن يدرّسونا ثقافتنا؟

تأمّل بتجرّد هذه المفارقة الفاقعة: مئات الملايين من المسلمين يحكمون على أعلى ذرى التصوف الإسلامي، بالكفر والزندقة والهرطقة، بينما المستشرقون الإنجليز والألمان والفرنسيون والروس، يعكفون عشرات السنين على نقل روائع الأدب الصوفي إلى لغاتهم، من القرن الثامن عشر فصاعداً. في العقد التاسع من القرن العشرين، حققت مجموعة من غزليات جلال الدين أعلى المبيعات في الولايات المتحدة. أهل الغرب «حمقى»، يُهدرون عشرات السنين في ترجمة تراثياتنا ودراستها، بينما نحن نراها عبئاً على سلال المهملات. بقي أننا لا نفهم سرّ تقدمهم علينا في جميع الميادين. فهل في التصوف أسرار رأوها ونحتاج فيها إلى نظارات طبيّة للعقول لا للعيون؟

قلت للقلم: اخرج من هذا النكد. قال: أتذكر في مسقط رأسي توزر، «فرقة العيسويّة»، مثل الزار المصرية؟ في أوج الإيقاعات بالدفوف، ينطق المنشدون مخارج أصوات لا معنى لها في أيّ لغة. يبرّرون ذلك للبلهاء بأنها لغة الجنّ. فيزياء الكمّ كانت متطوّرة جدّاً. الطريف هو أن تطلب من يوتيوب عروضاً موسيقية هندية أصيلة «راج»، ستشهد في الإيقاعات السريعة، المنشد وقد صار ينطق مخارج أصوات لا معنى لها. في غزليات جلال الدين مجموعة سريالية، إحداها أوردها القلم في كتابه «جلال الدين الرومي رائد المدارس الأدبية»، ولحّنها الموسيقار مجيد درخشاني، منها ما ترجمته من الفارسية: «جم جم جم من جام جم صوت جمجمتي..ناي ناي ناي ضرَبَ الدف قائلاً أنت نار العشق المطلق».

لزوم ما يلزم: النتيجة الحذريّة: عندما ترى أن الذين استعمروك عقوداً، يسخّرون أدمغةً غير عادية لدراسة ميراثك، فأضعف الإيمان ألاّ تستهين به.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mrxa5ujm

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"