الفلسفة والمجتمع ومقتضيات العصر

00:54 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

يدور نقاش في تونس بين الفلاسفة حول مكانة الفلسفة في أزمات المجتمع التونسي وإمكانات الفلسفة في تقديم أجوبة عميقة لتحولات مفصليّة يعيشها الفرد، والمجتمع، والدولة على حدّ سواء. وانبثق رأيان خلال المجلس العلمي الأول لمعهد تونس للفلسفة يوم 3 يونيو/حزيران 2023، وذلك للمرة الأولى منذ سنوات. وذهب الرأي الأول إلى ضرورة انفتاح الفلسفة على اليومي، وذهب الآخر إلى ضرورة حشر الفلسفة في ما تريده الجماهير.

  الحقيقة أنّها من المرات القلائل ربّما التي تُطرح فيها مسألة علاقة الفلسفة بالانشغالات اليومية للإنسان؛ فالفلسفة هي نطاق الكلّيات وليست الجزئيات، وهي لا تبحث في المعيش اليومي، بل إنّ اهتماماتها أكبر من جزيئات الفرد والمجتمع. ومع ذلك فإنّ السؤال قد طُرح اليوم بقوّة في تونس: أين فلاسفتها مما يحدث في بلدهم؟ وهل لديهم القدرة على تفكيك اليومي؟ وهل يصلح اليومي لأن يكون عملاً فلسفياً منتجاً للأفكار والحلول؟

  الواضح أن مجرّد طرح هذه الفكرة هو خطوة جيّدة ليس لتونس فقط بل للمجتمعات العربية الغارقة في أزمات متعددة يتشابك فيها “الإنّي” ب”الغيريّ”، ويواصل فيها “الأنا” رحلة التصادم مع “الآخر”، حتى في زمن القرية المعولمة، فهل صارت الفلسفة هي الحلّ الأخير الذي يمكن أن يعيد بناء الإنسان، والمجتمع، والدولة، والعلاقات بين كل هذه الأطراف؟ وهل تقدر “الفلسفة العربيّة” -إن صحّت العبارة- على إعادة تشكيل العقل العربي وجعله مُتّسماً بالعقلانية، والانفتاح، والحوار، والاستجابة لمقتضيات العصر؟ إنها إشكاليات مهمّة جداً تُطرح في هذه المرحلة التي يسعى فيها العرب إلى الخروج من طور الكيانات “المنسيّة” أو المهمّشة إلى طور المجتمعات الفاعلة والمنتجة ضمن فضاء الحضارة الإنسانية المعاصرة والراهنة. إن الإشكالية التي يجب أن ينتبه إليها الجميع هي أنّ الفلسفة كانت القاعدة الفكرية التي شُيّدت عليها النهضة الغربية المعاصرة بكل منتجاتها التي انبثقت عن أفكار الفلاسفة فيما بعد.     

   ومن الثابت أن أفكار الفلاسفة الغربيين لم تكن منقطعة عن تفاعلات الواقع وانشغالات اليومي، سواء تواصُلاً أو تصادماً، وهو ما يجعل إثارة علاقة الفلسفة باليومي في تونس سؤالاً مشروعاً وإن اختلفت حوله آراء الفلاسفة. يقول أستاذ الفلسفة التونسي فتحي التريكي: نعرف جميعاً أن العلاقة التي كانت تربط الفلسفة باليومي علاقة صعبة تصل أحياناً إلى حد التوتر والخصام؛ فكل منهما قد اتخذ قطباً مغايراً ومضاداً، حتى إن الهوة بينهما قد أصبحت عبر تاريخ الفلسفة عميقة جداً. بينما يذهب الأستاذ محمد محجوب إلى القول بأن الفلسفة ليس من مهامها الانشغال باليومي، فنجده يُدوّن “يمكن للبعض أن يكتفوا بالتعميم والسهولة.. ولكن لا يجوز لهم أن يفرضوها معياراً لما يُقال ولما يُتعقَّل. هل سنسكت مستقبلاً عمن يطرح علينا سؤالاً فلسفياً عميقاً بدعوى أنه لا يُستساغ من قِبل الفهم العام؟ هل سنغلق كتب الفلسفة ونفتح كتب الصور المتحركة بديلاً عنها؟ ألا يمكننا أن نجمع بين هذا وذاك معترفين لكلّ بوقته، وخصوصيّته، ومخاطَبيه؟”

   في كلّ الأحوال، إنّ الفلاسفة التونسيين وغيرهم من العرب مدعوّون إلى توسيع النقاش في هذه المسألة؛ لأنه الطريق المثالي لترجيح العقل والتفكير الهادئ في زمن العواصف. ومن يدعو إلى استمرار عزل الفلسفة عن يوميّها ومجتمعها يصرّ على أن تظل الفلسفة مكرّرة لمقولات الفلسفة الغربية دون عمل على أن يكون التفكير والخطاب الفسلفيان منبثقين من أسئلة الواقع وإرهاصات المجتمع؛ ذلك أن نهضة مجتمع ما لا يمكن أن تكون نهضة أصيلة، ومنتجة، وفاعلة إلا إن كانت منبثقة من رحم خصوصية الأنا ودون إسقاط من ذاتية الآخر على واقع مختلف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2wdtt9mw

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"