إعداد: فوّاز الشعّار
لُغتنا العربيةُ، يُسر لا عُسرَ فيها، تتميّز بجمالياتٍ لا حدودَ لها ومفرداتٍ عَذْبةٍ تُخاطب العقلَ والوجدانَ، لتُمتعَ القارئ والمستمعَ، تُحرّك الخيالَ لتحلّقَ بهِ في سَماءِ الفكر المفتوحة على فضاءات مُرصّعةٍ بِدُرَرِ الفِكر والمعرفة. وإيماناً من «الخليج» بدور اللغة العربية الرئيس، في بناء ذائقةٍ ثقافيةٍ رفيعةٍ، نَنْشرُ زاوية أسبوعية تضيءُ على بعضِ أسرارِ لغةِ الضّادِ السّاحِرةِ.
التّجاهُلُ في البلاغة: أنْ يقولَ الشّاعرُ «لا أدري»؛ كقول قيس بن الملوّح:
وخُبّرْتُ: لَيْلى بالعِراقِ مَريضةٌ
فأقْبَلْتُ مِنْ أرْضي إلَيْها أعودُها
وأُقْسِمُ ما أدْري إذا أنا جِئتُها
أأُبْرئُها مِنْ دائها أمْ أزيدُها
ومنه لعروة بن حزام:
أحقّاً يا حَمامَةَ بَطْنِ وَجٍّ
بهذا القَوْلِ إنّكِ تَصْدُقينا
غَلَبْتُكِ في البُكاءِ لأنَّ لَيْلي
أواصِلُهُ وإنّك تَهْجَعينا
كلانا يَشْتكي ألَماً وشَوْقاً
ولكنّي أُسِرُّ وتُعْلِنينا
دُرر النَّظم والنَّثر
إنّ الّذي نصَب المَكارمَ
أبو بكر الأرجاني
(بحر الكامل)
إنَّ الّذي نَصَبَ المَكارمَ لِلْورَى
غَرضاً يلوحُ مِنَ المَدى المُتباعِدِ
نَثَرَ الكِنانةَ عِنْدَهُ نَثْراً فَلمْ
يُوجَدْ لَدَيْهِ سوى سَديدٍ واحِدِ
فَبهِ يُكرِّرُ لا يزالُ إصابةً
لِبَعيدةٍ تَكريرَ بادٍ عائدِ
ويَحوطُه مُسْتَبقِياً إذْ لا يَرَى
مِثْلاً لَهُ إنْ شاءَ سهْمَ مَحامِدِ
كُلٌّ يُدِلُّ بطارِفٍ مِنْ مَجْدِه
يا مَنْ يَزينُ طَريفَه بالتّالِدِ
أبْدَى التَّعَجُّبَ مِنْ وُقوفِ مَقاصِدي
كُلُّ الأنامِ ومِنْ مَسيرِ قَصائدي
شِعْرٌ يَهُبُّ هُبوبَ ريحٍ عاصفٍ
مِنْ حَوْلِ حَظٍّ ليس يَنْهَضُ راكِدِ
ونَدىً حُسِدْتُ لَهُ فحينَ أذَلَّني
فَرْطُ التَبذُّلِ زالَ كَرْبُ الحاسِدِ
كالقَطْرِ أسلَمَه الغَمامُ ولَمْ يَقَعْ
في الأرْضِ بَعْدُ فَقَدْ تَبلَّدَ رائدي
فَلئنْ رسَمْتَ قَطَعْتُ عَنْهُ مَطامِعي
والقَطْعُ أنْجَعُ مِنْ عِلاجِ الفاسِدِ
أو لا فَأدْرِكْني بعاجلِ نُصْرةٍ
ما دامَ لي عُمْرٌ فَلَسْتُ بخاِلدِ
ظَمْآنَ أمْ رَيّانَ أمْ مُتوسِّطاً
لا بُدَّ مِنْ صَدَرِ الرِّعاءِ الوارِدِ
من أسرار العربية
في تَرْتِيبِ التَّدرجِ إِلى البُرْءِ والصِّحَّةِ: إِذا وَجَدَ المَرِيضُ خِفَّةً وهَمَّ بالانْتِصابِ والمُثُولِ، فهو مُتَمَاثِلٌ. فإِذا زَادَ صَلاَحُهُ فهو مُفْرِقٌ. فإِذا أقْبَلَ إِلى البُرْءِ غَيرَ أَنَّ فُؤَادَهُ وكَلامَهُ ضَعِيفانِ فَهُوَ مُطْرَغِشٌّ. فإِذا تَمَاثلَ ولمْ يَثُبْ إِلَيْهِ تَمامُ قُوَّتِهِ، فهو ناقِهٌ. فإِذا تَكاملَ بُرْؤُهُ فهو مُبِلٌّ. فإذا رَجَعَتْ إِليهِ قُوَّتُهُ، فهو مُرْجِعٌ.
ويُقال: غَثِيَتْ نَفْسُهُ. ضَرِسَتْ أسْنانهُ. سَدِرَتْ عَيْنُهُ. مَذِلَتْ يَدُهُ. خَدِرَتْ رِجلُهُ.
إذا تَأَذَّى بالِرَّائِحَةِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ، قيل: أَسِنَ يَأسَنُ، ومنهُ قولُ زُهَيرٍ:
يُغادِرُ القِرْنَ مُصْفَرّاً أنامِلُهُ
يَمِيدُ في الرُّمْحِ مِثْلَ المَائِحِ الأسِنِ
فإذا غُشِيَ عَلَيْهِ مِنَ الفَزَعِ، قيل: صَعِقَ
هفوة وتصويب
يخطئُ بعضُهم بقولهم «الأمْرُ مُناطٌ بفلانٍ»، والصّواب «مَنوطٌ». وفي اللّغة: نَاطَ الشَّيْءَ يَنُوطُهُ نَوْطاً: عَلَّقَهُ. ويُقَالُ: نُطْتُ هَذا الْأَمْرَ بِهِ أَنُوطُهُ، وقَدْ نِيطَ بِهِ فَهُوَ مَنُوطٌ. ونِيطَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ عُلِّقَ عَلَيْهِ؛ قَاْلَ رِقَاعُ الْأَسَدِيُّ:
بِلَادٌ بِها نِيطَتْ عَلَيَّ تَمائِمِي
وأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرابُها
ويقول آخرون: «وكان الجَمْعُ في هَرَجٍ ومَرَجٍ» ويعنون البَهْجة والمرحَ.. وفي صحيحِ اللّغة: الْهَرْجُ: (بتسكين الرّاء) الاخْتِلاطُ، وهَرَجَ النَّاسُ يَهْرِجُونَ، هَرْجاً: اخْتَلَطُوا. وأَصْلُ الْهَرْجِ: الْكَثْرَةُ فِي الْمَشْيِ والاتِّساعُ.
أمّا المَرْجُ: (بتسكين الرّاء)، فهو الفَضاءُ، وقِيلَ: الْمَرْجُ أَرْضٌ ذَاتُ كَلأ تَرْعَى فِيها الدَّوابُّ. أَرْضٌ واسِعَةٌ فِيهَا نَبْتٌ كثِيرٌ تَمْرُجُ فِيهَا الدَّوَابُّ، والْجَمْعُ مُرُوجٌ. ومَرِجَ النَّاسُ مَرَجاً (بفتح الرّاء): اخْتَلَطُوا. وَمِنْهُ «الْهَرْجُ والْمَرْجُ». وَيُقَالُ: إِنَّما يُسكّنُ الْمَرْجُ لأَجْلِ الهَرْجِ ازْدِواجاً لِلكَلامِ. وغُصْنٌ مَرِيجٌ: مُلْتَوٍ مُشْتَبِكٌ، قَدِ الْتَبَسَتْ شَناغِيبُهُ؛ قالَ الْهُذَلِيُّ:
فَجالَتْ فَالْتَمَسْتُ بِهِ حَشاها
فَخَرَّ كأَنَّهُ غُصْنٌ مَرِيجُ
من حكم العرب
عَلَيْنا لَكَ الإِسعادُ إِنْ كانَ نافِعاً
بِشَقِّ قُلوبٍ لا بِشَقِّ جُيوبِ
فَرُبَّ كَئيبٍ لَيْسَ تَنْدى جُفونُهُ
ورُبَّ كَثيرِ الدَّمْعِ غَيرُ كَئيبِ
البيتان لأبي الطيّب، يقول إنّ إسعادَ الآخرين، يكونُ بالسُّلوك الحَسن، والتّعاطفِ الصّادقِ. والمَظهر، غالباً، لا يُنْبئُ عن الحقيقة.