أحمد مصطفى
منذ بداية الحرب في أوكرانيا وكييف تسعى إلى تدخّل حلف شمال الأطلسي (الناتو) بشكل أقرب إلى المباشر في الحرب، بينما تحرص واشنطن على أن يظل موقف الحلف داعماً بقوة دون انخراط مباشر في الحرب؛ ولهذا السبب لم تتم الاستجابة لإلحاح أوكرانيا على تسريع انضمامها إلى الحلف حتى الآن.
يظل هذا هو الموقف الأمريكي، الذي يقود في النهاية كل مواقف أعضاء حلف الناتو خاصة من الأوروبيين. لكن أوكرانيا لا تفوّت أي فرصة لمحاولة توريط الحلف في ما هو أكثر من دعم دوله الأعضاء القوي لها، سواء بالعتاد العسكري أو بتزويدها بمعلومات الاستطلاع والاستخبارات العسكرية.
في أحدث محاولة، وبعد تعليق روسيا العمل باتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود إلى حين تلبية مطالبها ضمن الاتفاق تحاول القيادة الأوكرانية جر حلف الناتو للتدخل المباشر؛ إذ إن أوكرانيا -وكثير من دول الغرب في الحقيقة، بما فيهم الولايات المتحدة- ليسوا معنيّين بتلبية طلبات روسيا، ويريدون الاتفاق مقتصراً على سماح الروس بممر مائي آمن لأوكرانيا فقط.
ومع عدم تجديد الاتفاق تصبح سفن الشحن عرضة للتفتيش والتعطيل، وربما الاستهداف على اعتبار أنها معادية أو تسهم في المجهود العسكري بشكل أو بآخر. وليس أمام أوكرانيا خيارات لتصدير إنتاجها من الحبوب؛ فالنقل عبر السكك الحديدية إلى دول مجاورة لن يحمل إلا قدراً ضئيلاً من تلك الصادرات، وفي وقت أطول. كما أن استخدام مياه نهر الدانوب لشحن الحبوب إلى دول مجاورة والتصدير منها لا يُعد خياراً مُجدياً لسببين: الأول أنه أيضاً لا يكفي إلا لكميات قليلة على فترات متباعدة وفي زمن أطول. والثاني أن دول شرق أوروبا المجاورة تفرض حظراً على دخول الحبوب الأوكرانية لحماية إنتاج مزارعيها.
تحاول كييف مجدداً إدخال حلف الناتو خط المواجهة، وذلك باقتراح أن تسير سفن الشحن من موانئها الجنوبية في خط قريب من شواطئ رومانيا وبلغاريا في حماية قوات الناتو. فالدول الأعضاء في الحلف تطل على البحر الأسود من ناحيتي الشرق، والشمال الشرقي، وفتح ممر ملاحي جديد بالقرب من شواطئ دول الحلف سيعني أن سفن الشحن الأوكرانية ستكون في حماية القوات المشتركة للناتو.
يظل الأمر اقتراحاً، لكن هناك من بين أعضاء الناتو -مثل بولندا- من يهمه المُضي في هذه الخطوة إلى الأمام في مواجهة الحلف لروسيا. ويبقى حسم هذا الاقتراح معلقاً بالموافقة الأمريكية، حتى لو كانت بولندا وبريطانيا -وربما غيرهما- مع الاقتراح. وربما يرى الأمريكيون أن تلك الخطوة ليست في خطورة ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، وإنما يمكن تسويغها باعتبار أن الحلف يحمي شحنات الحبوب لأغراض «إنسانية عالمية»، حتى على الرغم من أن الحملة الإعلامية بغرض «شيطنة» روسيا، وكونها تستخدم الغذاء سلاحاً لم تفلح كثيراً هذه المرة كما حدث العام الماضي.
فمطالب روسيا أيضاً تبدو «لأغراض إنسانية» كما يدعي الغرب في تبرير مواقفه؛ فهي تطلب أن يطبق على صادراتها من الحبوب ما يطبق على صادرات أوكرانيا، وأن يسمح لبنك الائتمان الزراعي الروسي بالوصول إلى النظام المالي العالمي. ويبدو ذلك منطقياً طالما أن الأمر في سياق اتفاق. ثم إن الغرض الأساسي من اتفاق الحبوب -حسب الأمم المتحدة- كان ضمان وصول شحنات الحبوب من قمح وذرة وغيره إلى الدول الأكثر احتياجاً في العالم، أو بمعنى آخر دول الجنوب الفقيرة والنامية. وتتهم روسيا أوكرانيا والغرب بأن ذلك لم يحدث، وإنما تذهب الحبوب إلى الدول الغنية والقادرة، حيث لم يصل إلى الدول الأكثر احتياجاً من لبنان إلى إثيوبيا سوى القدر الضئيل جداً عبر برنامج الغذاء العالمي، وهي كميات وفرت أوكرانيا نصفها ووفرت روسيا نصفها.
الأرجح في هذه الحالة -إذا لم تفلح مسألة الوعظ بالاعتبارات الإنسانية في تبرير تدخّل حلف الناتو نحو شفا شبه مواجهة مع روسيا- أن يكون التبرير هو حماية العالم من مواجهة أزمة غذاء تسبّبها روسيا. ومع أن محاولات تجديد اتفاق تصدير الحبوب مع روسيا لن تتوقف، إلا أن فرصه هذه المرة لا تبدو جيدة كما كانت في العام الماضي؛ فتجديده سيعني استجابة من الغرب بقيادة أمريكا لبعض مطالب روسيا، وهناك تصوّر يتصاعد في الغرب بأن القيادة في موسكو ربما تتعرض لضغوط داخلية، وبالتالي ليست في موقف تفاوضي أفضل.